أوردنا في الكتابْ قِصَة التَأمِيمِ والمُصادرة التي بَدأت فُصُولها بِقرارَاتٍ عَاصِفةٍ بَعدَ أشْهُرٍ قَلائِل مِنْ انقلاب 25 مايو 1969م على النظام الديمقراطي الذي أعقب ثورة 21 أكتوبر 1964م، وتَتَابعت حَلَقاتُ تلك القرارات في الذِكْرى الأولى لِثَورَة مايو في العام 1970م واسْتُكْمِلت بَعدَ ذلك بِقَليل.
نَعَتْناها بالقراراتِ “المُزَلزِلةِ”؛ لأنَها كَانَتْ ثَمَرَةً للَدَعَاوى العَريضةِ عن الطَهارة الثَورِية،ِ وللانْدِفَاع الطَائِش الذي أعْشَى البَصَائِر وغيب العقول، وتَمَت تلك القرارات في ظُرُوفٍ مَشْحُونَةٍ بالقَلقِ والتَوَتُر، وبِاتِهَامَاتٍ لا تَسْنِدُها أدِلَةٌ وبَرَاهِينَ مُقْنِعة بِالفَسَاد والتَخْرْيب الاقْتِصَادي، دَمَغَتْ بِها قيادة نظام مايو رِجَالَ الأعْمَال والشَرِكَات والمَصَارِف وغَيرِها مِنْ مُنْشَآتِ الأعْمَال.
جَاءَتْ تِلكَ القَرَارات مُبَاغِتةً واتُخِذَت عَلى عَجَلٍ مُرِيب، وهَزَتْ الاقْتِصَاد السُودَاني هَزَاً عَنِيفَاً، وأحْدَثَتْ تَغْيِيراً كَبِيراً فِي بُنْيَتِهِ الهَيْكَلِيةِ ومُكَوِنَاتِهِ القِطَاعِيةِ، وأضَرَتْ بِعِلاقَاتِهِ بالأسْوَاق المَحَلِيةِ والخَارِجِية، وأرْبَكَتْ تَعَامُلاتِهِ التِجَارِيةِ والمَصْرَفِيَة، وتَرَكَت جَرَاءَ كُلِ ذَلِكَ آثَارَهَا السَالِبَة لِسَنَواتٍ طَوِيلَة.
ولَئِن كَانَ مَقْصِد نِظَام مايو، إنْ أحْسَنَا الظَنَ بِهِ، هُوَ الإصْلاَحُ الاقْتِصَاديُ فَقَد أخْطأَ ذَلكَ الهَدَف بِدَرَجَةٍ كَبِيرَةٍ، وَتَجَاوَزَ مَرامِي الإصْلاحِ بِتِلكِ القَرَاراتِ المُتَعَجِلَةِ المُلْتَبِسة.
والدَلِيلُ عَلىَ ذَلِك أنْ نِظَام مايو أدْرَكَ فَدَاحَةَ مَا أقْدَمَ عليه وبَدأ التَرَاجُع عَنْ تِلْكَ القَرَارَات فِي الفَتْرَة القصيرةِ التي أعْقَبَت انقلاب 19 يُوليو 1971م مُبَاشَرَة وتحديدا في العام 1972م.
وفِي رَأيِنا ومِما عَايْشَناهُ فِي ضَوءِ التَجْرِبَةِ العَمَليَةِ، ولَخَصْنَاهُ فِي الفَصْلِ الأخِيرِ مِنْ الكِتَاب عَنْ حَصَادِ تَجْرِبَةِ التَأْمِيمِ والُمصَادَرَةِ، أنْ الاقْتِصَادَ السُودَاني رُبَمَا كَانَ سَيَزْدَادُ عَافِيَةً لَوْ أنَ نِظَامَ مَايو تَمَهلَ فِي تَطْبِيقِ نَهَجِهِ الاشْتِرَاكِي، فاهْتَمَ بِالتَنْمِيَةِ فِي القِطَاعَاتِ الاقْتِصَادِيةِ الاسْتِرَاتِيجِيَةِ كالزِرَاعَةِ والصَنَاعَةِ والانْتَاجِ الحَيَوَانِي والتَعْدِين إلخ، الَتِي كَانَ يَجْدُرُ أنْ تَكُونَ فِي رَأسِ أوْلَوِيَاتِ الدَوْلَةِ، وسَعَى إلى تَطْوِيرِ البِنِي التَحْتِيَة وتَوْفِيرِ الطَاقَةِ والخَدَمَات بِأنْوَاعِها وغَيرَ ذَلِك مِنْ مُتْطَلَباتِ التَنْمِيَةِ، وفَتَحَ البَابَ وَاسِعَاً لِلمُسْتَثْمِرِينَ وللِشَرِكَاتِ وَالَمَصَارِف الأجْنَبِيَةِ وَحَفَزَها لِتَسْخِيرِ إمْكَانَاتِهَا وخِبْرَاتِهَا وعِلاقَاتِهَا الدَوْلِية لِهَذا الجَهْد التَنْمَوي، وِفْقَ سِيَاسَاتٍ اقْتِصَادِيَةٍ مُتَكَامِلَةٍ وتَشْرِيعَاتٍ قَانُونِيَةٍ مُلائِمَةٍ وَضَوَابِطَ وَتَرْتِيبَاتٍ إدَارِيةٍ تَضْمَن تَشْجِيع ومُشَارَكَة القِطَاعَينْ العَامْ والخَاصْ السُوداني.
مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيءٍ فَقَدْ مَرَت تَجْرِبَة نِظَامْ 25 مايو في التَأمِيمِ والمُصَادَرَة وفِيهَا كَثِيرُ مِنْ العِبَرِ والدُرُوس وأهمها في رأينا أن النظم العسكرية الشمولية هي التي تجنح في الغالب لاتخاذ مثل هذه القرارات المزلزلة وأن النظام الديمقراطي، مهما كانت سوءاته هو الكفيل بتوفير حرية التداول حول القرارات الصعبة وخلق الظروف المواتية للإصلاح الاقتصادي.
ولَمْ يَكُن الذي أوْرَدْناهُ فِي كِتَابِنا عَنْ تِلْكَ التَجْرِبةِ، وَقَدْ بَذَلْنَا فِيهِ مَا وَسِعَنَا الجَهْد، إلا لَمَحَاتٍ لِبَعْضِ جَوَانِبِها. وَلا نَدَعِي أنَنَا بِمَا كَتَبنَاهُ اسْتَقْصَيْنَا التَجْرِبَة وأتَيْنَا عَلى كُلِ تَفَاصِيلِهَا وبَلَغْنَا بِمَا أوْرَدْنَاه عَنْهَا الكَمَال، فَمَا زَالَ فِي الأضَابِير الكَثِير المُثِير الخَطَر!
ويَبْقَى الأمَل مِنْ بَعْدِ هَذَا أنْ يَتَوفَر ذَوو الاهِتِمَام والاخْتِصَاص عَلى المَوْضُوع وأنْ يَسْتَكْمِلوُا دِرَاسَتِهِ وَبَحْثَهِ وبِاللهِ التَوْفِيقْ.
صدر الكتاب عن مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي – أمدرمان.