بالأمس افتتح رئيس جمهورية السودان مقر لجنة التحري في قضايا الفساد التابعة لجهاز الأمن والمخابرات، والتي تضم ممثلين لكل الجهات التنفيذية والعدلية ذات الصلة بالتحري في قضايا الفساد، وما زال الناس ينتظرون تفعيل «قانون النزاهة والشفافية ومكافحة الفساد» الذي صدر منذ فترة طويلة وأن تتشكل المفوضية التي نص عليها القانون، بل ويتوقع الناس – مادامت الحكومة تؤكد أنها جادة في مكافحة الفساد – أن يتم تعديل ذلك القانون، بمنح المفوضية المزيد من الصلاحيات والاستقلالية التي تمكنها من أن تؤدي واجبها دون أي تدخل من أي جهة، وأن يكون رئيسها وأعضاؤها من المستقلين غير المنتمين للحزب الحاكم، وأن تكون سمعتهم ومهنيتهم فوق الشبهات، حتى يطمئن الناس لجدية السلطات في محاربة الفساد، خاصة وأن المتهمين الذين بدأت الحملة باعتقالهم مؤخراً، هم إما أعضاء في الحزب الحاكم أو من المقربين له، ولا تستطيع التعامل معهم إلا أجهزة تتمتع بكافة الاستقلالية والمهنية والنزاهة التي يحميها القانون.
ولقد أشرت قبل شهور عديدة، وفي شهر أبريل الماضي تحديداً، إلى أن الفساد استشرى بسبب سياسة التمكين التي أنتجها النظام، وأن وجود أشخاص فوق مستوى المساءلة والمحاسبة، أسهم في خلق تحالف بين ذوي السلطة وذوي الثروة، يتمتع بقدرات رهيبة في غيبة مبدأ المحاسبة وحكم القانون،
وقلت يومها ما يلي:
«لقد طال (التمكين) الساحة الاقتصادية السودانية، سواء في قيادات القطاع الاقتصادي أم في الناشطين في السوق؛ فقد كان التوجه منذ لحظة انطلاقة الإنقاذ نحو الاستيلاء على السوق، ودعم النشاط الاقتصادي والتجاري للكوادر التي تم اختيارها بعناية، حتى تحتكر وتنفرد وتسيطر على حركة السوق، وتجد الدعم والمساندة والمحاباة من القيادات الاقتصادية في الجهاز الحكومي والجهاز المصرفي.
ليس غريباً في مثل هذه الأحوال أن تنمو (طبقة جديدة)، تحتكر المال والجاه والنفوذ، وتتحالف مع صفوة تمتلك السلطة والقرار السياسي، وتنمو للفساد أنياب، ويكمل سيطرته على المواقع، حتى يستطيع تحالف السلطة والثروة أن يقوم بنشاطاته وهو آمن مطمئن، بعد أن غابت عن الساحة احتمالات المساءلة أو المحاسبة أو إعمال مبادئ حكم القانون.
بدأنا نسمع عن مخالفات مليارية، وعن اختفاء حصيلة الصادر من العملات الأجنبية، وعن تصدير الذهب عبر الحدود تحت حماية واضحة أو مستترة، وسمعنا أسماء لأغنياء جدد لم نسمع بهم من قبل، وعن أرقام فلكية لتقديرات ثروات بعض الأشخاص الذين كانوا في عداد محدودي الدخل.
وتطاول القوم في البنيان، فأنشأوا العمارات السامقة و(شطّبوها) بمستويات أوروبية، واجتازوا الحدود، فأخفوا ثرواتهم في بنوك آسيوية متساهلة أو بنوك أوروبية، بعد أن تم غسلها بعمليات معقدة.
الفساد – إذأ – لم يعد عملية بسيطة، إنما تحول إلى نشاط أخطبوطي من أنشطة (الجريمة المنظمة) التي تحمل كل ملامح (المافيا)، وبالتالي لن تكون محاربته بالأمر البسيط، وكل ما نسمع عنه اليوم لا يعدو أن يكون الجزء البارز للعيان من (جبل الجليد)، ولا يظنن أحد أن المفسدين الذين طالتهم المحاسبة سيسكتون أو يستسلمون، إنهم – بلا ريب – سيقاومون، ولن يتوانوا في استعمال وسائل المقاومة والمراوغة كافة، تماماً مثلما تتصرف عصابات (الجريمة المنظمة)؛ لأن المصالح التي نتجت عن هذه الممارسات الفاسدة مصالح كبيرة، سيلجأون إلى أسلحة التهديد والابتزاز، حتى تصطدم التحقيقات بعوائق عظيمة، وفي أفضل الأحوال سيلجأ المتهمون إلى فقه (التحلل)، فيضحون بجزء من المال الحرام الذي حصلوا عليه مقابل تبرئتهم».
هذا ما قلته بالأمس، وأضيف اليوم أنني ألحظ في الأفق مؤشرات تفيد أن سيناريو «التحلل» يوشك أن يطل برأسه في الساحة، وأخذ البعض يقول: «المهم عندنا أن نسترجع أموالنا المنهوبة»!
نعم، نحن نريد أن نسترجع أموالنا المنهوبة، وبنفس القدر نريد أن نسترد ما حققته لهم من أرباح، وفوق ذلك كله نريد للقانون أن يأخذ مجراه، فيبرئ ساحة الأبرياء، ويدين الوالغين في الفساد وينزل بهم أقصى العقوبات،
جراء ما ألحقوه بالوطن من أضرار جسيمة، وبالمواطنين من إفقار وإفلاس وتردي أحوالهم المعيشية.