ما يلفت الانتباه في محاكمة اللواء الأمن عبدالغفار الشريف أن أول جملة نطق بها في دفاعه عن نفسه في خصوص تهمة الفساد باستغلال النفوذ للاستحواذ على أراضٍ سكنية فاخرة، أن هذا الدفاع (ونعرض له لاحقاً) هو عينه الذي يكشف عن السبب الذي يجعل النظام يمضي خطوة إلى الأمام، ثم يتراجع مثلها أو أكثر منها للخلف في خصوص قضايا الفساد، وبما ينتهي إلى تسوية القضايا “كُتِّيمي” بأن يُعيد السارق جزءاً من المسروقات، ثم يمضي في سبيله بباقي ريع وفوائد حصيلة الجريمة، وهو ما حدث من قبل في قضية عائد الصادر وأموال استيراد الدواء ومخالفات مدير الجمارك السابق، وقضية مكتب والي الخرطوم … إلخ، فالنظام يُدرك أن كل قضية فساد سوف تنتهي بـ “جرجرة” طابور من الشركاء، بما ينتهي إلى وضع كامل جهاز الدولة في قفص الاتهام.
في نفي تهمة الحصول على إحدى القطع السكنية عن نفسه، قال اللواء أمن عبدالغفار (الصحف اليومية الصادرة بتاريخ 25/7/2018) إنه حصل على قطعة الأرض “هدية” من رئيسه في العمل في ذلك الوقت اللواء صلاح قوش، وفي القانون، مثل هذا الحُجّة تُسمّى بـ “الدفع غير المُنتِج”، بمعنى أن إثبات صحة واقعة الهدية لا يؤدي لبراءة المتهم من تهمة الفساد، والصحيح أن إثبات صحتها ينتهي بضم صلاح قوش نفسه إلى الجلوس كتفاً بكتف مع عبدالغفار في قفص الاتهام، ما لم يثبت “قوش” أن الأرض كانت من أملاكه الشخصية أو أنه مُخوّل قانوناً بذلك، ومثل هذه القاعدة الأوليّة في القانون (عدم الأخذ بالدفع غير المُنتِج) لا يمكن أن تفوت على رجل قانون صاحب خبرة ومعرفة مثل الأستاذ حسن البرهان عبدالرحمن محامي المتهم، ولكن “برهان” يعلم أنه دفع له اعتبار وتأثير على قلوب وأعصاب قضاة المحكمة العسكرية، وهم ضباط أمن يتوقف مصير مستقبلهم الوظيفي والعسكري على غمزة من طرف عين الفريق صلاح قوش الذي يرجع إليه تشكيل المحكمة، ويعلم المتهم ومحاميه أن هذا الدفع – على عدم جدواه قانوناً – سوف يؤدي حتماً إلى تغاضي المحكمة عن هذه التهمة بالذات.
هذه وسيلة (أعني التلويح بجرجرة شركاء فوق المساءلة) مُجرّبة وناجِعة، ويعود الفضل في ابتداعها إلى السيد مدير الأراضي ووكيل ديوان النائب العام السابق الذي ضُبط بالثابتة، ونُشرت تفاصيل جرائمه باستغلال النفوذ والسلطة في اللستيلاء على أراضي الدولة بالمستندات على صفحات الجرائد، والذي جعله يفلت من المحاسبة برغم اعترافه الشخصي بتلك الأملاك، أنه لا يوجد مسؤول أو صاحب مقام لم يطرق باب مكتبه أو يتوسّل إليه خلال فترة عمله الطويلة مديراً للأراضي ( 2002 – 2012) لمنحه قطعة أرض أو أكثر بالمخالفة للقانون، من بينهم ولاة ووزراء وقضاة ووكلاء نيابة ومستشارين وضباط كبار في الجيش والشرطة و صحفيين ..الخ، فكل الأملاك والقصور التي تراها اليوم هي من فضلة خير هذا اللص الظريف.
ليس غريباً أن يُهدي لواء بالأمن ودون سند قانوني زميلاً له في الخدمة قطعة أرض توازي قيمتها حصيلة اغتراب استشاري في الطب بالسعودية أو الخليج لثلاثة عقود متتالية، فقد أصبح هذا “التهادي” بين أقطاب السلطة بأملاك الدولة يتم بالبساطة التي يُهدي بها الشخص صديقه قنينة عطر، فقد كان رئيس القضاء الأسبق يُهدي من يُحِب من مرؤوسيه وزوّاره قطعة أرض فاخرة، وهو يحتفظ بسندات الملكية في دُرج مكتبه، كما أن هناك عصابة في جهاز الاستثمار لصندوق الضمان الاجتماعي كشف عنها تقرير رسمي كان قد تقدم به المستشار أحمد أبوزيد رئيس لجنة الحسبة والمظالم للبرلمان (13/5/2016) جاء فيه أن أفراد تلك العصابة يقومون – ولا يزالون – باستغلال اسم الصندوق في الاستحواذ على أراضٍ سكنية عالية القيمة، ثم يقومون بإعادة بيعها (سُكّيتي) والسمسرة فيها للمعارف والأحباب -دون إعلان- بسعر أدنى كثيراً من قيمتها في السوق.
في القانون، لا يكتسب الفعل الآثِم مشروعية لمجرد كونه قد أُجيز أو وافقت عليه جهة إدارية أعلى من الفاعل، وقد سبق أن طرحت هذا القول عند تناول قضية مدير التلفزيون القومي السابق محمد حاتم سليمان الذي كان قد حصل على البراءة من تهمة مخالفة القانون واللوائح المالية استناداً إلى حصوله على إذن وموافقة وزير المالية بدرالدين محمود على تلك التصرفات، فيما الصحيح أن الوزير نفسه لا يزيد في نظر القانون عن كونه موظفاً عاماً يخضع في تصرفاته للقانون الذي يخضع له المتهم، ومن ثم، لا يملك الوزير سلطة تجعله يُضفي مشروعية على أفعال المتهم، حتى لو كان صاحب السلطة الأعلى هو رئيس الجمهورية، ففي مصر انتهى القضاء بعد الثورة إلى محاكمة الرئيس حسني مبارك بتهمة استغلال النفوذ، وهو أعلى سلطة في البلاد بسبب استيلائه على أراضٍ حكومية كان قد قام بتسجيلها بأسماء أبنائه.
ليس صحيحاً أن ما يجري الآن من ملاحقة بعض أثرياء النظام حرب على الفساد، وما يقطع بذلك، أن النظام الذي يقول إنه يريد محاربة الفساد هو نفسه الذي يبذل غاية جهده بالتزامن مع هذه الملاحقات في سبيل الحصول على عفو من رئيس دولة أجنبية على أحد أشبال أثرياء الإنقاذ حُكم عليه بالتأبيدة في قضايا تتصل بالفساد وغسيل الأموال.
ثم أن جرائم الفساد التي تجري التحقيقات بشأنها الآن حدثت وقائعها في فترات سابقة تحت بصر وعلم السلطات، وكان النظام (بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه) حتى قبل أسابيع قليلة يُنكر حدوث الفساد ويقول: إن الذين يتحدثون عنه هم مجموعة من الخونة والمأجورين من مناضلي الكيبورد يفترون على أشخاص أتقياء وأنقياء ويخافون الله !!
فما الجديد الذي جعل الفريق قوش يُشهِر سيفه هكذا فجأة عليهم، وهو الذي كان يجلس على المقعد نفسه الذي أُعيد إليه الآن حينما وقعت هذه كل الجرائم، وبعضها (جرائم أولاد شركة سيدكو) كانت تجري منذ منتصف التسعينيات، وهي الشركة التي بدأت بها السفيرة الشابة سناء حمد مسيرتها العملية بعد التخرُّج، وهي (“كتكوت” عمر يوم) في وظيفة مدير الشؤون الإدارية.
التفسير الصحيح لهذه الحملة أنها نفير لتحصيل (أتاوات) من أثرياء يرى النظام، لأنه يرى – وهو مُحِق في ذلك – أنه صاحب فضل عليهم في تحقيق ثرواتهم، وقد انتفض النظام عليهم بسبب تقاعُسهم في التجاوب مع الدعوة التي كان قد أطلقها عدد من أنصار النظام في المنابر، وعبر الصحف لحث الأثرياء على إنقاذ البلاد من حالة التفليسة التي وصلت إليها، والتي بلغت الحد الذي أصبحت فيه الدولة عاجزة عن دفع قيمة شحنة جازولين، ويُطالع القارئ بالتزامن مع نشر هذا المقال تصريحاً ورد بلسان النائب البرلماني “علي أبرسي” ذكر فيه أنه توجد حالياً (17/7/2018) ثلاث ناقلات بترول ترسو منذ فترة بميناء بورتسودان في انتظار تدبير قيمة الشحنة التي تبلغ (7) ملايين دولار لحل الازمة الحالية في الوقود.
بالعودة إلى محاكمة اللواء عبدالغفار، ليس هناك أهمية في أن تكون وقعة عبدالغفار في قبضة رفاقه في الظلم والتشفِّي فيه -بوضعه في حبس انفرادي بزنزانة – قد حدثت بسبب كون ذلك تصفية حسابات داخلية أو غير ذلك من التفسيرات، فالمهم النظر إلى ما ستنتهي إليه هذه المحاكمة، والعقوبة التي تتمخّض عنها في حال إدانة المتهم، وأهمية ذلك تأتي في ضوء السابقة التي أرستها محكمة جرائم الفساد التي قام بتشكيلها رئيس القضاء، التي انتهت إلى توقيع عقوبة السجن ثلاث سنوات على المتهم الذي كان قد أُدين في قضية التلاعب في عائدات الصادر، وجاء في حيثيات الحُكم أن المحكمة قد نظرت بعين الاعتبار في تخفيف العقوبة مراعاة للظروف الشخصية والأسرية للمحكوم.
لا يستطيع النظام أن يُضمِّن قائمة الجرائم الحقيقية التي ارتكبها عبدالغفار في حق ضحاياه الذين قام بتعذيبهم، والتنكيل بهم، وهي حقوق لا يُسقِطها تقادمـ ولا يمحو عارها مُضي الزمن، وسوف يأتي وقت محاسبته عنها طال الزمن أم قصر.
لقد قلنا، ونُعيد، أنه ليس هناك من بين رجال الإنقاذ من يمتلك أيدي نظيفة حتى يستطيع محاسبة الآخرين.
سيف الدولة حمدناالله
saifuldawlah@hotmail.com