امتلأ بص المؤسسة الوطنية للنقل العام (هكذا كان اسمها الجديد على ما أذكر بعد أن ورثت شركة البص السريع التي صودرت في هوجة مصادرات عام 1970التي جمعت بين العبث والكارثة ) ، امتلأ البص بركابه واتخذ طريقه من السوق الشعبي في الخرطوم إلى مدينة القضارف. كل أو معظم الوجوه مألوفة لي إن لم أكن أعرفها معرفة شخصية. راكب واحد فقط بدا وجهه جديدا على الذاكرة..شرطي يرتدي زيه الرسمي ويضع بندقيته بين قدميه ويحمل وجهه ملامح محايدة.لا ترى فيها حزنا ولا فرحا ولا ابتسامة ولا تكشيرة وبدا كلوحة جدارية خالية من الحركة والتعبير.
توقف البص في الكاملين. نزل كل الركاب تباعا ..كان الشرطي آخر النازلين وهو ممسك ببندقيته ومعه راكب كان يجلس على المقعد الملاصق لمقعد الشرطي. في صالة المطعم الواسعة التف عدد كبير من الركاب حول ذلك الراكب الذي يرافقه الشرطي وهو ينتقل من حضن لآخر. أمواج وأمواج من الود الحميم لو أطلق عقالها من المطعم لغمرت الكاملين كلها. مدت اكثر من طاولة لتتسع لهم يتصدرها المحتفى به واكتفى حارسه هذه المرة بالجلوس على بعد أمتار من رفيق سفره وتحولت اللوحة الجدارية إلى لحم ودم ومشاعر ووجه يبتسم. المحتفى به كان بنفس الهدوء الذي عرف عنه ونفس الوجه المبتسم في أكثر المواقف حرجا.
هكذا احتفى أهل القضارف بعيدا عن القضارف بعفوية شديدة وبلا اعداد بابنهم الاستاذ علي إلياس المحامي الذي كان من رواد خريجي الجامعات ودارسي القانون وممارسي مهنة المحاماة في القضارف . عقب فشل انقلاب 19 يوليو 1971 العسكري ومجزرة الشجرة انطلقت حملات قتل واعتقالات مسعورة وقودها التعطش للدم، تدفعها حالة نفسية ضاغطة من الذعر والرغبة في الانتقام. لما زالت حالة الذعر واستتب الأمر جيء بالأستاذ علي إلياس من سجن كوبر لسجن القضارف وسط أهله وعشيرته مما يخفف عليه وعليهم شيئا من عناء المسافات الطويلة. كان يحمل هم أهل القضارف الذين انتخبوه لعضوية المجلس البلدي ممثلا لديم النور وكان يتصدر لقضاياهم بطريقته الودودة الآسرة.كان يحمل هم كل الوطن وليس القضارف وحدها.أحبه كل أهل القضارف على اختلاف خياراتهم السياسية.
بعد فترة قليلة أفرج عن الأستاذ علي إلياس من اعتقاله التحفظي الطويل الذي كان بسبب هويته الشيوعية. انتقل للخرطوم وفتح مكتبا للمحاماة في قلب الخرطوم ونجح أيما نجاح بسبب مهنيته الرفيعة ودماثة خلقه وصلاته الاجتماعية الواسعة.لم يكن تعذيب الناس وملاحقتهم في أكل عيشهم سائدا تلك الأيام. الصفات المميزة التي كان يتمتع بها الأستاذ علي إلياس وخلفيته الرياضية كلاعب كرة قدم متميز في نادي الأهلي في القضارف حملته في النهاية لنادي الهلال الذي منعته الدراسة في مصر من ارتداء شعاره، فأصبح سكرتيرا له في فترة ذهبية من تاريخ الهلال وطرح فيها الأستاذ علي إلياس نهجا متحضرا جديدا في الإدارة الرياضية.
ألف رحمة ونور على الإنسان الودود، الشريف،الزاهد، العاشق لبلاده وإنسان بلاده.