ورقةٌ مستعادةٌ من رُزنامةٍ قديمة
في مؤتمريه الرَّابع (أكتوبر 1967م)، والخامس (يناير 2009م)، ألزم الحزب الشِّيوعي السُّوداني نفسه بدعم نضال الجَّماهير المؤمنة في سبيل الكرامة، والحريَّة، والاشتراكيَّة، وبالجِّهاد بحزم وصبر لتحرير “الدِّين” نفسه بوضعه فى مجرى تطوُّره الحقيقي ضدَّ التَّمييز الطبقي، وحكم الطاغوت، وللسَّير بالحضارة الإسلاميَّة إلى عالم القرن العشرين. وفي تحليله للأزمة السِّياسيَّة التي نشبت عقب ثورة أكتوبر 1964م، والذي ورد ضمن تقرير “الماركسيَّة وقضايا الثَّورة السُّودانيَّة” الذي قدَّمه الشَّهيد عبد الخالق محجوب، واعتمده المؤتمر، ذهب الحزب إلى أن القوى “الرَّجعيَّة” التي ظلت تعمل فى إطار الحركة السِّياسيَّة “العقلانيَّة” دفع بها تصاعد نشاط الجَّماهير إلى ترك الحياة السِّياسيَّة “العلمانيَّة”، والاتِّجاه إلى الدَّجل اليمينى بإقامة سلطة رجعيَّة “باسم الدِّين”؛ وأن خط الحزب الشِّيوعي فى الدِّفاع المستميت عن مصالح الجَّماهير، والاقتراب اليومي من طرق معيشتها، وتقاليدها السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والذي سيجعلها تقتنع ببطلان الهستيريا الرَّجعيَّة، والدَّجل الطبقي الذى تحاول القوى الرَّجعيَّة إلباسه مسوح “الدِّين”، لا يكفى وحده لمواجهة خطر الهجوم الفكري، لذا لزم الحزب أن ينمِّى خطه حول علاقة الإسلام بحركة الَّتقدُّم الاجتماعي، لا بالانحباس في خانة الدِّفاع on the defensive، والاقتصار على الرُّدود على ما يُثار، بل بالتَّقدُّم نحو جعل “الدِّين” عاملاً يخدم المصالح الأساسيَّة للشَّعب، بدلاً من تركه أداة فى يد المستغِلين. وشدَّد الحزب على وجوب طرح هذا الخط في المستوى الفلسفي، ما يقتضي العودة لإضاءة مسألة “الدِّين” في سائر الفلسفة التي انشغلت بتفسير العالم، وفي الماركسيَّة التي أفصحت، بوجه خاص، عن عكوفها على تغييره، وذلك لمواجهة المحاولات الدَّائبة التي تجري في معاهد التَّعليم للتَّخلي عن الحياة “العلمانيَّة”، وتزوير الأفكار الإسلاميَّة ضدَّ التَّقدُّم الاجتماعي؛ فلا بُدَّ، إذن، من دخول الحزب بين الطلاب لا كداعية للنِّضال السِّياسي، فحسب، بل كقوَّة فكريَّة تتصدَّى لهذا الخطر بوضع “الدِّين” في مكانه اللائق من حركة الجَّماهير.
جاء هذا الطرح “التَّحويلي” الباكر من فوق “مراكمة” فكريَّة دؤوب في هذا الشَّأن، أسهمت فيها، على مدى سنوات طوال، رموز شيوعيَّة بارزة كحسن الطاهر زرُّوق، والرَّشيد نايل، وفاطمة أحمد إبراهيم، وغيرهم، كما انطوى على أمرين فى غاية الأهمية: أولهما الاستخدام المنتبه لمصطلح “العلمانيَّة”، لا بمدلولاته التى استقرَّت فى الفكر الغربي منذ حقبة التَّنوير، إحدى الحقب الثَّلاث لعصر الحداثة التَّالي للعصور الوسطى الأوربيَّة، وإنما كمرادف لمفهوم “العقلانيَّة” في الفكر الإسلامي. أمَّا الأمر الثانى فسداد تلك الانتباهة الذى يتجلى فى كونها سعت إلى ملامسة عصب فائق الحساسيَّة في القوام الفكري والسِّياسي للجَّماعة المستعربة المسلمة في بلادنا، وهو العصب الذي قلما يبرز بوضوح كافٍ من بين وقائع تدافعها السِّياسوي، وفحواه أن الصِّراع حول “قضيَّة الدِّين” لا يدور، فحسب، بين “الأنا” المسلم و”الآخر” غير المسلم، وإنَّما داخل “الأنا” المسلم نفسه بين تيارين رئيسين:
(1) عقلانى منفتح: يتعاطى مع الإسلام في جوهره القائم على قيم العقل، والحريَّة، والكرامة، والإخاء، والمساواة، والمشاركة، والعدل، والسَّلام، وبخلفيَّة تستوعب مقتضيات التطوُّر؛
(2) وسلطوى منكفـىء: لا يرى الإسلام إلا طغياناً، واستبداداً، وإكراهاً، وقسراً، وتسلطاً، واضطهاداً، وبالجُّملة مشروعاً قمعيَّاً ينقض كلَّ تلك القيم، فيجعله عامل هدم للحياة، لا محفزاً لإعمارها.
هكذا حدَّد الحزب أن المشكلة ليست فى “الدِّين” نفسه، بل في “التَّديُّن” المتنوِّع، القائم على تفسير البشر، وتأويلهم، وفهمهم المتباين للنُّصوص، والمقاصد الكليَّة، خصوصاً على صعيد ما يطلق عليه “التَّديُّن بالسِّياسة” فى أدبيَّات “التَّيَّار السُّلطوي” فى بلادنا، مِمَّا يستوجب إصلاح تصوُّر الوعي الاجتماعي للصِّراع، باعتباره قائماً، ليس فقط حول قضيَّة “التَّساكن” بين المسلمين وغير المسلمين، كما لو أن مجرَّد إبرام أيِّ اتفاق سلام بين الجَّانبين سوف يحقِّق، ضربة لازب، حلاً نهائيَّاً لهذه المشكلة، وطنيَّاً واجتماعيَّاً، وإنَّما باعتباره قائماً، بالأساس، داخل قوام الجَّماعة المستعربة المسلمة نفسها، بين تياريها المتمايزين: “العقلاني المنفتح”، من جهة، والذي ينبغي أن يواصل إعمال النَّظر المستنير في حركة الواقع، ومتغيِّراته، ومستجدَّاته، بمنهج يستوعب مقاصد “الدِّين” الكليَّة المتجذِّرة فى مصالح الفرد والجَّماعة، كمحفِّز روحى، بخاصَّة، للفقراءِ، والكادحين، والمهمَّشين، رجالاً ونساءً، باتِّجاه تغيير واقعهم البائس بأنفسهم على قاعدة الحديث الشَّريف: “ما أمرتكم بشئ من دينكم فخذوه، أما ما كان من أمر دنياكم فأنتم أدرى به”، ومن جهة أخرى التَّيَّار “السُّلطوي المنكفئ” الذي يرمى إلى فرض نمط “تديُّنه السِّياسي” الخاص على مجمل الوعي الاجتماعي، مستخدماً “الدِّين” مطيَّة للتَّسلط والقهر، ومتوسِّلاً به للكسب الدُّنيوي، وخداع الكادحين بحملهم على التَّسليم بواقع الاستغلال، قبل أن يكون هذا الصِّراع قائماً بين “الدِّين” و”العلمانيَّة” وفق الإرث الأوربِّي التَّاريخي.
قد يرى البعض في هذا الطرح “صفويَّة” على نحو أو آخر. غير أن هذا غير صحيح. فغاية ما يرمي إليه الحزب هو التَّشديد على أن الصِّراع مع قوى الإسلام السِّياسي لا بُد أن يدور، بوجه خاص، في المستوى الفلسفي، وفي معاهد العلم، وهو الميدان الأساسي الذي اختارت هذه القوى التَّركيز على إدارة المعركة فيه، عامدة إلى تربية جيل بأسره على تزوير الأفكار الإسلاميَّة. ولكن ذلك لا يعني، في نفس الوقت، حجب هذا الصِّراع عن الجَّماهير. فقد ألزم الحزب نفسه بمهمَّتين متشابكتين: الدُّخول بين الطلاب كقوَّة فكريَّة، بوجه خاص، ومواجهة الإسلام السِّياسي، عموماً، بخط يضع “الدِّين” في مكانه اللائق من الحراك الجَّماهيري، الأمر الذي جرى التَّأكيد عليه في مؤتمري الحزب الخامس والسَّادس.
وفي المؤتمر الخامس، بالذَّات، والذي انعقد بعد ما يربو على أربعين عاماً من المؤتمر الرَّابع، لم يكتف الحزب باستعادة موقفه القديم من قضيَّة “الدِّين” في برنامجه الجَّديد، فحسب، بل وسدَّد نقداً ذاتيَّاً موضوعيَّاً لعدم الارتقاء بذلك الصِّراع، في ما بين المؤتمرين، إلى المستوى الفكري، ومواصلة الاقتصار على المستوى السِّياسي فحسب. ذلك لا يعني الدَّعوة، بأيَّة حال، إلى “صَّفويَّة” ما، كما قد يعتقد البعض خطأ، بقدر ما يعني عدم حبس القضيَّة في أسر السِّياسة “العمليَّة”، وضرورة الخروج بها إلى ساحة النِّزال “الفكري”، كالتزام حزبي.
أخيراً لا بُدَّ من الأخذ في الاعتبار ببعض عوامل التأثير على هذا النِّزال، والتي ترتَّبت خلال السّّنوات الطوال التي انقضت منذ أوَّل طرح هذا الالتزام. فعلى سبيل المثال حاق الفشل الذريع بـ “المشروع الحضاري” الذي طرحه الإسلامويُّون السُّودانيُّون في مدخل انقلابهم العسكري عام 1989م، ودشَّنوا به خطتهم لاكتساب “التَّمكين”! وقد يكفي للتَّدليل على ذلك، فضلاً عمَّا يمكن أن يُرى بالعين المجرَّدة، الدِّراسة الأكاديميَّة التي أخضعت فيها مختلف دول العالم لما أُطلق عليه “معيار الإسلاميَّة Islamicity Index”، والتي أنجزها أكاديميُّون من خلفيات مسلمة بجامعة جورج واشنطن، عام 2010م، ثمَّ عملوا على تحديثها عام 2014م، وذلك تحت إشراف البروفيسير حسين عسكري، أستاذ الاقتصاد الدَّولى والعلاقات الدَّوليَّة، ود. شهر زاد رحمن، وكشفت عن وضعيَّة السُّودان في ذيل القائمة، بحصوله، بعد ربع قرن من الحكم الإسلاموي، على أسوأ الدَّرجات في ما يتَّصل بتطبيق القيم الإسلاميَّة على كلِّ أصعدة الاقتصاد، والحكم، والقانون، وحقوق الإنسان، والسِّياسة، والعلاقات الدَّوليَّة، في حين تصدَّرت القائمة، بترتيب العشر الأوائل، عن جدارة واستحقاق، وبنفس المعايير الإسلاميَّة، للمفارقة، دول كنيوزيلندا، ولوكسمبرج، وإيرلندا، وآيسلندا، وفنلندا، والدنمارك، وكندا، والمملكة المتحدة، وأستراليا، وهولندا؛ بل جاءت حتَّى إسرائيل في وضعيَّة أفضل من السُّودان، حيث شغلت المرتبة 27، بينما شغل السُّودان، المحكوم بنظام يتلبَّس “الإسلام”، المرتبة202 من جملة 208 دولة .. فتأمَّل!
***
kgizouli@gmail.com