(التنميط) (أو القولبة) Stereotyping
هو إصدار حكم ما على شخص أو أشخاص بسبب انتمائهم إلى جماعة معينة (كانتمائهم إلى منطقة أو مدينة أو عرق أو فئة اجتماعية). والتنميط في حقيقته (صور ذهنية معممّة) نختزنها في ذاكرتنا عن الآخرين، ونقوم بترجمتها في الواقع إلى أفعال في كثير من المواقف التي نتفاعل فيها مع فرد أو أفراد ينتمون إلى جماعة ما.
خطورة التنميط
للتنميط مخاطر كثيرة في المجتمع، ومن ذلك:
- وسائل الإعلام المصدر الرئيس لكل أفكارنا وتصوراتنا عن الدول الشعوب والثقافات والديانات وغيرها، ولها مصداقية عالية عند كثير من أفراد المجتمع، واستخدامها في التنميط يؤدي إلى تكوين صور ذهنية سالبة تؤثر فيهم، وتدفعهم إلى إصدار أحكام معمّمة فيها كثير من التجني، وعدم الفهم الصحيح للآخرين الذين يختلفون عنهم في اللون أو الجنس أو الدين أو الفكر أو الفئة الاجتماعية، وغيرها.
- خطورة التنميط تكمن في أنها تبيح في كثير من الأحيان ممارسة التعصب تجاه الجماعات التي نحمل عنها صوراً سلبية.
- تزداد خطورة التنميط في سهولة تكوين الصور المنمطة السلبية في العقول، وصعوبة إزالتها منها في كثير من الأحيان.
- يسهم التنميط في ترسيخ الظلم الاجتماعي، وغياب المساواة، وممارسة التمييز، الذي من أشكاله العنف المباشر.
- يتفاقم تأثير التنميط ما لم يكن هناك عمل مؤسسي، أو تقنين يجرم أي نوع من الإساءة التي قد توجه إلى أي فئة أو جماعة في المجتمع.
الإعلام المصري وتنميط الشخصية النوبية
يمكن استهلال الحديث عن التنميط الذي يمارسه الإعلام المصري على الشخصية النوبية باقتباس عبارة بسيطة للأديب النوبي حجاج أدول يقول فيها:
“الحكومات المتتالية أهملت النوبة، ولجأت إلى التنميط السلبي للمواطن النوبي فى الإعلام بتصويره على أنه مجرد بواب، إلى جانب الاتهامات بالخيانة لأي نوبي يثير مسألة الحقوق الثقافية”.
قد نتفق أو نختلف مع أديبنا الكبير حول مسؤولية الحكومات عن هذا التنميط، ولكن يمكن القول: إن التنميط كان موجوداً في ظل الاستعمار، حيث نجد الأفلام كانت تصور النوبي في دور الخادم أو البواب أو السفرجي، ويمكن أن نسوغ ذلك بأنه يمثل وجهاً من الظلم الاجتماعي الذي كان يعانيه جل المصريين، والذي كان من مظاهره حرمان الأغلبية من التعليم، ومن ثروات البلاد، وطغيان الإقطاع، ولكن لم يكن هناك مسوغ في استمرار هذا التنميط في ظل ثورة قامت لمحاربة كل أنواع الظلم، وتحديث المجتمع بكل مكوناته، خصوصاً بعد التضحية الكبيرة للنوبيين الذي اختفت بيوتهم تحت ماء السد العالي، من أجل أن تنعم مصر بالكهرباء، التي نقلت المجتمع المصري نقلة واسعة في طريق التطور والتنمية.
وكان من المتوقع من صناع الأفلام التي كانت أكثر أنواع الإعلام تأثيراً عند قيام ثورة يوليو أن يتوجهوا إلى تناول مشكلات المجتمع النوبي الذي يتميز بخصوصيته وثرائه الحضاري، وكان يمكنهم أن ينهلوا من هذا التراث، ويربطوا الماضي بالحاضر، وهم يلقون الضوء على مجتمع فيه كثير من المشكلات التي تستحق التناول.
ولكن ما يؤسف له أن أولئك اكتفوا بحبس النوبي في الشخصيات النمطية التي تمثل ديكوراً في أفلامهم، أو مبعثاً للضحك الذي تثيره سذاجتهم، كما يظنون، وإذا أرادوا الإفادة من مخزونه التراثي أتوا به مشوهاً، فملامحه ليست هي الملامح التي اختص الله بها النوبيون.
وهذا الخلط امتد إلى الفنون النوبية التي تعرضت للتشويه في عالم أصبح قرية، وأصبح النوبي البعيد يعيش في قلب المدن المصرية ممارساً فنه وحياته الاجتماعية التي عرف بها، ومن ثم، يبدو عجيباً أن يصور النوبي وهو يرقص بريش، أو بقرون، وغير ذلك، مرتدياً ملابس لا علاقة لها بملابسه التقليدية.
والأعجب أن طريقة النوبي في نطق العربية خاصة به، ولكنها في الأفلام المصرية أقرب إلى طريقة نطق الأفارقة أو الأسيويين، بل إن اللغة النوبية ذاتها تتعرض للتشويه، فهي لا صلة لها في أغلب الأحيان باللغة التي عاشت قروناً متحدية تحولات الزمان، وإنما هي طلاسم ينطق بها الممثلون كيفما يشاؤون؛ للسخرية واستجداء الضحك.
وهذا التشويه الذي يظل يمارسه صناع الدراما –بعد أن نافست الأعمال التلفزيونية الأفلام- يمكن أن نقول: إنه نتيجة اجتهادات فردية، ولكن المسؤولية الرسمية التي أشار إليها لأستاذ أدول تبرز في الحضور الضعيف للنوبة بحضارتها العريقة في المقررات الدراسية، فلا نجد –مثلاً- لبعانخي وتهراقا، وغيرهما من صناع الحضارة النوبية غير ذكر يسير يكون على استحياء، كما لو كان الأمر متعمداً.
وجانب آخر من الثقافة النوبية يتعرض للتشويه في الدراما لمصرية، وأعني اللغة النوبية التي هي مصدر تميز لمصر كلها، لا للنوبة فحسب؛ لأن استمرار هذه اللغة لها دلالاتها العميقة ومنها ما يتسم به المجتمع المصري من تسامح، واستيعاب الاختلافات الثقافية وغيرها بوعي وحكمة.
ولكن الأفلام ثم المسلسلات والمسرحيات والبرامج الحوارية –مؤخراً- ظلت تنال من هذه اللغة، والمتحدثين بها، وتسخر من طريقة نطقهم العربية، من غير أن يبحثوا عن السبب، وهو ببساطة أن العربية بالنسبة إليهم لغة ثانية، وأن لديهم لغة ثرية ظلت صامدة إلى اليوم، ومع ذلك يعدّ النوبيون من أفضل المعلمين في تدريس اللغة العربية، وغيرها من اللغات.
ومثل هذه السخرية تصنف في إطار العنصرية الثقافية، وادعاء استعلاء أهل لغة ما على غيرهم، والانتقاص من قدر من يتحدثون لغة تختلف عن اللغة السائدة.
واقتبس مرة أخرى من أديبنا الكبير أدول الذي يقول: “اللغة النوبية آخذة فى الانقراض نتيجة ما حدث من تذويب للهوية النوبية؛ بنقل النوبيين إلى أماكن متفرقة.. اليوم يصعب أن نجد نوبياً دون الثامنة عشرة يتحدث اللغة النوبية”.
إن النيل من النوبي بالسخرية من طريقة نطقه العربية كان له نتائجه، وهي لجوء كثير من النوبيين إلى تعليم أبنائهم العربية، وإهمال اللغة النوبية، حتى يجنبوا أبناءهم السخرية.
وأسوق هنا مثالاً واحداً يوضح انتشار العربية على حساب اللغة النوبية في المجتمع النوبي، فقد أخبرتني خالتي – وهي تقطن عنيبة إحدى حواضر النوبة- قائلة: إن البنات في القرية يجلسن جلسات سمر ومؤانسة بعضهن مع بعض إلى ما بعد منتصف الليل يتبادلن الحديث بالعربية، ولا يمكن لواحدة في سني أن تفهم شيئاً، بل إن الأطفال في القرية يزجرون إذا تحدثوا بالنوبية، لحرص أمهاتهم على أن يتحدثوا بالعربية، حتى لا يكونوا محل سخرية أقرانهم.
وهذا الخوف الذي يبديه الحريصون على اللغة قد يراه كثيرون مبالغاً فيه، لأن النوبيين يجتهدون في تلمس الوسائل التي تصون لغتهم، فمنذ اكتشف الأستاذ الدكتور مختار كبارة الحروف النوبية، استمرت جهود المثقفين النوبيين في ابتداع الوسائل لنشر لغتهم، ومن ذلك جهد الأستاذين مكي علي إدريس وخليل عبسى خليل –رحمه الله في وضع المعجم النوبي (نوبي وعربي)، ويمثل استخدام الحرف العربي فتحاً يشجع المهتمين باللغة من العرب والأكاديميين لتعلم اللغة النوبية، وإعداد دراسات حولها.
وقد بادر مركز البحوث والتواصل العربي بتبني المعجم الذي سيصدر قريباً بعد الإضافة والتتقيح.
الوضع الحالي
في ظل تصاعد نغمة حقوق الإنسان، كان من المتوقع أن يقل التمييز الذي يمارس ضد النوبيين إلا أنه أخذ – للأسف- صوراً جديدة.
ومع أن لا سند تاريخياً يؤكد أن النوبي كان عبداً في أي يوم من الأيام، إلا أن صفة عبد نجدها في كتاب الأمثال العامية للعلامة أحمد تيمور، إذ يقول: “حبيبك اللي تحبه ولو كان عبد نوبي”.. وقد أوضح الأستاذ جعفر عباس –كاتب نوبي شهير من شمال السودان- أن العبد النوبي تحول إلى “عبد نوحي” في الطبعة التالية بعد أن نبه هو إلى ذلك.
ويبدو أن الحرج الرسمي الذي ظهر في التعديل في أكبر كتاب أمثال عربي، لم يعن شيئاً لأهل الفن، إذ أصبح النوبي عبداً في الكليبات، وتأتي صفة البرابرة – التي كان يوصف بها من هو أسمر أو أسود اللون في بعض الحارات- على ألسنة ممثلين كبار، وهم يقومون – في حالة وجود اعتراض من النوبيين- بالاعتذار ببساطة بعد أن يكونوا رسخوا صوراً سلبية عن إنسان فيه جوانب كثيرة جميلة يمكن أن تثري الوجدان المصري، وتمثل مصدر فخر لمصر.
وهذا التنميط المصري شجع غيرهم، فامتد إلى الإعلام العربي، ويروي زميلنا الصحفي الأستاذ فيصل عبداللطيف، وهو نوبي: “أذكر مطلع التسعينيات عرض في التلفزيون السعودي، مسلسل اسمه ( جزيرة الكنز)، أظنه إنتاجاً سورياً، وكان ضمن تفاصيل المسلسل المغامرة بالذهاب إلى جزيرة نائية تقع في (بحر النار) ، ويظن أن في هذه الجزيرة كنزاً. في الحلقة التي عرضت فيها الجزيرة كانت سحنات سكانها سودانية، ويتحدثون لغة (غريبة)، لا يفهمها الغزاة الذين جذبهم بريق الكنز إلى الجزيرة المجهولة، واتضح لي أن اللغة التي يتحدثونها هي ( اللغة النوبية ) وتحديداً لغة الدناقلة.. لغتي الأصلية، فنحن تعلمنا العربية في المدارس”.
ولم تجد محاولات الزميل فيصل لحمل السفارة السودانية على الاحتجاج فتيلاً، فقد أعيد المسلسل مرات ومرات.
ومع تصاعد المطالبة بحقوق النوبية في الأرض التي هجروا منها في جنوب السد العالي، برزت أصوات المخونين، الذين بدلاً من التعمق في القضية، وجدوا أن الأسهل رمي من يتصدى لها بالخيانة، وربطه مباشرة بالكيان الصهيوني من دون أن يرمش لهم جفن، ولعلهم لا يدركون أن اللغة النوبية كانت اللغز الكبير الذي لم تستطع إسرائيل حله، وكانت من عناصر النصر.
ومثل هذا التخوين الذي يراد به التخويف لا يمثل ردعاً للمطالبين بحقوقهم، لأن هؤلاء لا يمكن أن يزايد أحد على انتمائهم الأصيل إلى مصر.
وهذا التقسيم بين مصر والسودان لا يشغل النوبيين؛ لأنهم يشعرون أن هذه الحدود وهمية، وأنهم عنصر توحيد بين البلدين، ودليل دامغ على أن ما يجمع بينهم أكبر من أي محاولة للتفريق تحت أي دعاوى، ولعل الحكام في البلدين يعملون على استغلال هذا الرباط العميق من أجل خير الشعبين الشقيقين.
ومن ضمن الممارسات الجديدة لبعض وسائل الإعلام جعل النوبيين فزاعة، فقد أوردت بعض الصحف مثلاً أن داعش تنوي التمدد عبر مصر والسودان وليبيا، ونسبت إلى منظمة العدل والتنمية اتجاه داعش إلى إقامة إمارة النوبة الإسلامية وإمارة أسوان الإسلامية وفتح مصر، مثل هذا الكلام الذي تبثه صحف لا تستوثق من معلوماتها ومصادرها محاولة لتشويه القضية النوبية، ورمي النوبيين بالسعي إلى الانفصال، وإقامة دولة خاصة بهم، وتحريض للدولة لتسكت أصوات النوبيين الشرفاء الذين لا يريدون إلا حقهم، من دون أن تكون لهم نية للإضرار بالدولة سواء في مصر أو السودان، بل المضحك المبكي أن تقترن النوبة بالإسلاميين المتشددين، فهل يمكن للنوبيين الذين عرفوا بسماحتهم الفطرية أن يتبنوا أي فكر متطرف في أي اتجاه. ولا يمكن لأحد أن يجادل في أن النوبي إنسان متحضر وأدواته في التعبير عن نفسه حضارية، وهو يتحدث لغة العقل والمنطق والحضارة، ولا يعرف اللغة الرخيصة التي يتحدث بها بعض وسائل الإعلام، ولا لغة الهمج الذين يشوهون الدين الخاتم الذي جاء رحمة للعالمين.
أصوات منصفة
على الرغم من الخطاب الإعلامي القائم على التنميط والتخوين من بعض وسائل الإعلام، إلا أن الأصوات المتعقلة كثيرة، ولها ثقلها، والأمثلة لا حصر لها على ما يجده النوبيون من تعاطف نخب مثقفة منصفة، ولكن حتى هؤلاء الذين يبدون تفهماً لما يطالب به النوبيون يفتقدون إلى كثير من المعلومات، التي تعدّ أهم سلاح في الإقناع، وهنا يأتي دور النوبيين.
ما المطلوب؟
كان من المتوقع أن يكون النوبي البسيط الذي يتعرض للسخرية في وسائل الإعلام المختلفة مصدر إلهام للباحثين، الذين كان عليهم أن يبحثوا لماذا النوبي تحديداً الذي يفضل في الأعمال التي تتطلب الأمانة، وصون الأعراض، وأسرار البيوت، كالطباخة والحراسة.
ونجد الإجابة في تعليق شاب نوبي على الإعلانات التي انتشرت مؤخراً وتطلب النوبي بالتحديد في بعض المهن، وخصوصاً تلك التي تتعلق بالمال، كالصرافات، إذ يقول بفخر: “النوبي لا يحتاج إلى فيش وتشبيه، انتماؤه وحده يكفي”.
لقد عرف الخليجيون الصفات الرائعة للنوبي، وظلوا يفضلونه على غيرهم، حتى لو كانوا أمهر منه، وهم يظلون يرددون أنهم يستأمنونهم على بيوتهم لكرم أخلاقهم ونبلهم.
إن المطلوب من صناع الدراما والإعلاميين في مختلف وسائل الإعلام إدراك خطورة التنميط، وإسهامه في تشويه مكونات المجتمع، ونشر الروح العنصرية والتعصب، ولهذا عليهم أن يتوجهوا إلى القضايا الحقيقية للمجتمع، والإسهام في إيجاد الطريق إلى حلها، وإبراز الجوانب الحضارية المشرقة في مختلف ربوع مصر، وإنصاف الذين تضرروا من التنميط، كالنوبيين، وإعادة اكتشاف حضارتهم، وتراثهم، والإفادة من فنونهم في الشعر والغناء والتشكيل والعمارة في إغناء الوجدان المصري، والترويج السياحي في عالم ينجذب إلى المختلف الذي لا يماثل غيره، ولا شك أن الإرث الحضاري فيه من التميز ما يلفت الأنظار، ويستقطب محبي الجمال، والباحثين عن اكتشاف الجديد المثير.
إنني هنا أشير إلى نموذج مثالي في إبراز كنوز التراث النوبي، وأقصد تجربة الفنان محمد منير الذي قدم التراث الغنائي النوبي في ثوب عصري قشيب، واستطاع أن يكسب احترام العالم، وأن يعطي صورة إيجابية عن هذا التراث، إذ قرن بذكاء بين العربية والنوبية، وأوضح مدى الثراء الذي يتسم به الفن النوبي، وكان الفنان النوبي الكبير أحمد منيب –رحمه الله- هو من فتح له الكنز الفني النوبي، ولا ننس أن الفنان الراحل علي كوبانة –رحمه الله- نال الجوائز العالمية، وهو يمثل مصر، كما أن الفنان النوبي السوداني محمد وردي –رحمه الله- اقتحم إفريقية بفنه، ويتغني كثيرون فيها بالأغنيات النوبية من غير أن يعرفوا معانيها، ومن ثم، علينا أن نقدم كنوزنا الفنية إلى غير النوبيين، لأن الفن عنوان بارز لأهل أي حضارة، وقد استطاع الفنان النوبي حمزة علاء الدين أن يكتسب صيتاً عالمياً، فعمل في أرقى الجامعات في الشرق والغرب، وأوصل الفن النوبي إلى آفاق بعيدة.
والمطلوب من النوبيين أيضاً من خلال مؤسسات المجتمع المدني الدفاع عن النوبة إنساناً وأرضاً وحضارة، وألا يسمحوا لأي إساءة من أي جهة كانت، وسيجدون كثيراً من إخوانهم من المصريين الذي سينحازون إليهم، لمعرفتهم بقيمة النوبة الحضارية، التي تمثل مصدر فخر لمصر، وقد كانت وقفة البيت النوبي مع الجمعية المصرية النوبية للمحامين في قضية هيفاء وهبي، واغنيتها “بابا فين” التي ابتكرت إساءة جديدة اسمها “القرد النوبي” نموذجاً لما يمكن أن يقوم به النوبيون في الوقوف ضد التنميط ومحاولات النيل منهم، فقد اعتذرت الفنانة هيفاء، وكاتب الأغنية، وأقر محاميها بأنه أعطى جميع القنوات الأرضية والفضائية النسخة الجديدة من الأغنية بعد حذف الكلمة المسيئة، وجرت مخاطبة الشركة الموزعة ببث الأغنية بعد التعديل، وعبر عن عظيم تقديره لأبناء النوبة وحضارتهم، وكان ذلك سبباً في التصالح.
هناك من يرى أن النوبيين لا يجب أن يكونوا في موقف دفاع، في حين أن الدول تلجأ إلى الدفاع عن نفسها، وعن مصالحها، وتقف ضد كل ما تراه مسيئاً لها، فعندما اعترضت سفارة الولايات المتحدة الأمريكية تغير اسم فيلم “أنا ومونيكا” تغير إلى “كيمو والفستان الأزرق”، كما أن اعتراض السفارة الفيلبينية في القاهرة حول اسم فيلم “ولا في النية أبقى فلبينية” إلى “ولا في النية أبقى..”، واضطر صناع فيلم “بلية ودماغه العالية” إلى حذف ما رأته السفارة اليمنية مسيئة إلى بلدها.
ومع أن رفض الإساءة واجب، إلا أن مبادرة النوبيين بتبني قضاياهم إعلامياً أوجب، سواء من خلال تشجيع إقامة قنوات خاصة بهم، أو بالتعاون الوثيق مع القنوات الإعلامية والمواقع الإلكترونية المختلفة، كما أن المبادرات المبتكرة مثل اليوم النوبي العالمي لها تأثيرها الإيجابي في التعريف بالحضارة النوبية، وبواقع الإنساني النوبي اليوم، وتسهم في كسب التعاطف الشعبي والاهتمام الرسمي.
ولا شك أن المواقع الإلكترونية أدت دوراً كبيراً في التعريف بالنوبة وحضارتها، خصوصاً في الأوساط النوبية، إلا أن الانفتاح على الآخرين، سواء أكانوا في داخل مصر أم خارجها مهم وضروري، وفق رؤية واضحة لا خلاف عليها تقوم على أن النوبة جزء أصيل من أرض مصر، واعتزازها بهذا الانتماء لا يقبل التشكيك، وبالمثل فإن النوبة في السودان يعدون أنفسهم جزءاً أصيلاً من السودان، ولا يرى النوبيون في شطري الوادي أي تناقض بين نوبيتهم وانتمائهم سواء إلى مصر أم السودان؛ وهم يمثلون حلقة الوصل بين الشعبين الشقيقين ما دامت الحياة.
ومع وجود مراكز بحثية نوبية هنا وهناك، إلا أن جهودها مبعثرة، لأنها في الغالب ثمرة اجتهادات فردية، ولهذا لا بد من تضافر الجهود من أجل إيجاد مركز بحثي نوبي لا أجندة له غير إبراز الحضارة النوبية بوصفها رافداً من روافد الحضارة الإنسانية، إلى جانب دورها في تبني القضايا النوبية بأسلوب حضاري بالاستناد إلى المعلومات التي هي أهم قوة لصاحب أي قضية.
* ورقة قُدمت في ندوة “النوبة في الإعلام المصري”، الأسرة النوبية، جمعية أبو سمبل الخيرية بالرياض، بحضور سعادة الأستاذ أحمد عبدالمجيد قنصل مصر بسفارة الرياض –آنذاك-،