في رواية عنه قال ابن عيينة قال لي عبد الكريم الجوزي يا أبا محمد، أتدري ما حاطب ليل؟ قلت لا، إلا أن تخبرنيه، قال: هو الرجل يخرج من الليل فيحتطب، فتقع يده على أفعى فتقتله.
هذا مثل ضربته لك لطالب العلم، إن طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه، قتله علمه، كما قتلت الأفعى حاطب ليل! وفي اجابة عن سؤال في برنامج المقابلة بقناة الجزيرة بمناسبة عامه الحادي والتسعين تكلم مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، الذي عاد مرة أخرى للمنصب، عن أكثر الناس زيارة له والسؤال عن تجربته، فرد قائلا (أكثر الناس سؤالا هم السودانيون) وأردف (لكنهم لم يستفيدوا!(
في ضوء الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها البلاد وتشمل كل القطاعات الاقتصادية، وتبدو مظاهرها وآثارها واضحة للعيان، لابد من أن يتساءل المرء: هل جاء نظام الانقاذ برؤية محددة لانتشال البلاد من الأوضاع الاقتصادية التي عددها في بيانه الأول، أم انه كان كطالب علم حمل ما لا يطيق من الأحلام والرؤى الاقتصادية النظرية، وظل يحاول تطبيقها في السنوات الماضية بسياسات وبرامج مختلفة وقرارات ملتبسة، فأضحي بعد 29 عاما في الحكم كحاطب ليل قتلته أفعى التجارب والاجتهادات وهو يواجه مشكلات السودان الاقتصادية العويصة. ولماذا لم يستفد نظام الانقاذ من تجارب الدول الأخرى من حولنا وقد بقي في الحكم كل هذه السنوات الطويلة، ومنها تجربة مهاتير محمد في ماليزيا الذي قال إننا في السودان أكثر من استمع إلى إرشاداته ونصحه ولم نستفد منه! ولماذا تعسرت وفشلت سياسات وبرامج نظام الانقاذ في معالجة أوضاع البلاد الاقتصادية كما فشلت سياسات الأنظمة التي سبقته، بحسب زعمه، والتي وصفها بالرعناء!
لابد أولا أن نورد بعض الشهادات الهامة عن الاقتصاد السوداني وما آل إليه حاله اليوم، اخترناها قصدا من بين كثير من الشهادات والكتابات التي تتباين أهدافها ومصداقيتها. الأولى لصندوق النقد الدولي الذي ظل يتابع حال اقتصاد السودان في السنوات الماضية، والثانية لوزير مالية سابق تولى الحقيبة مرتين هو السيد عبد الرحيم حمدي، والثالثة لمحافظ سابق للبنك المركزي (بنك السودان) هو الدكتور صابر محمد الحسن. والسيد حمدي والدكتور صابر هما من أبناء الإنقاذ كما هو معلوم. أما الشهادة الأولى فهي في صدر الخبر الصحفي لصندوق النقد الدولي في 29 نوفمبر 2017م أشاد فيه بالإصلاحات الجزئية (Partial policy adjustments) التي نفذتها الحكومة في السياسات لإعادة التوازن للاقتصاد السوداني الذي يعاني من مشكلات كثيرة. لكن الصندوق عبر بوضوح عن عدم كفاية تلك الإصلاحات لمواجهة “موجة الصعوبات” التي يعاني منها الاقتصاد السوداني ولتحقيق استقرار مستدام ونمو يشمل كل القطاعات (However, while these measures were helpful, they were insufficient to turn the tide toward sustained macro-economic stability and broad-based growth)
وكان الصندوق قبل هذا وفي البيان الصحفي لختام مشاوراته لعام 2016م مع الحكومة قد وصف السودان بأنه “بلد هش” منخفض الدخل يواجه قيودا محلية ودولية شديدة واختلالات اقتصادية كلية كبيرة رغم الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الكلي والنمو. ومعلوم لصندوق النقد الدولي أن هذه الاختلالات في جانب منها نتيجة لمشكلات سياسية عويصة: منها انفصال الجنوب الذي تسبب في فقدان جل عوائد البترول التي تبددت دون أن يستفاد منها في التنمية، والحصار الاقتصادي بسبب توجهات نظام الانقاذ الإيديولوجية والسياسية التي نتج عنها اعتبار السودان من الدول الراعية للإرهاب وتم حرمانه من مزايا تجارية ومصرفية مؤثرة، وأيضا الحروب والنزاعات المستمرة بسبب العجز عن التوصل لحلول سياسية تحقن الدماء وتوفر الموارد. لكن المشاكل والصعوبات الاقتصادية هي ايضا نتيجة القصور في البرامج الاقتصادية أو في عدم الالتزام بتنفيذها، وفي السياسات النقدية والمالية المتتابعة والمتقلبة التي اعتمدتها ونفذتها الحكومة خلال السنوات الماضية.
الشهادة الثانية لوزير المالية الأسبق السيد عبد الرحيم حمدي. ففي حوار أورده موقع النيلين الإليكتروني في 15/7/2017م انتقد السياسات الاقتصادية للحكومة ووصفها بأنها “انكماشية” وتسببت فيما وصل إليه الاقتصاد السوداني من تدهور. وقال إن البنك المركزي عجز عن وضع سياسات نقدية (Monetary Policies) استراتيجية، كما عجزت وزارة المالية عن وضع سياسات مالية (Fiscal Policies) فعالة، هذا على الرغم من أن الحكومة ظلت تجرب عددا من تلك السياسات طيلة السنوات الماضية. على أن أهم ما عبر عنه السيد حمدي حول سياسات الحكومة في رأينا، هو ما ورد في حديثه في منبر صحيفة التيار “كباية شاي” في مايو 2018م وتناقلته المواقع الإليكترونية. فقد وصف الاقتصاد السوداني ب “المنهار” من وقت بعيد وتوقع استمرار الأزمة الاقتصادية بالبلاد إذا لم يتم تلافيها بإطلاق “الحريات الاقتصادية والسياسية”. وأشار السيد حمدي إلى تجربتي الاقتصاد الهندي والصيني وأوضح أنهما ازدهرتا نتيجة الحرية الاقتصادية. وقال بعبارة صريحة وواضحة (الوضع ده كان معروف إنو حيحصل والحلول الرئيسية الآن في الحرية السياسية والاقتصادية(.
أما الشهادة الثالثة فهي للدكتور صابر محمد الحسن محافظ بنك السودان الأسبق والتي جاء فيها فيما نقله رئيس تحرير صحيفة السوداني عن حوار للدكتور صابر مع الأستاذة سمية سيد: (لا يُوجد برنامج إصلاح اقتصادي واضح تتبنَّاه الحكومة. صحيح يوجد البرنامج الخماسي لكن الصحيح أيضاً أنه قديم ويحتاج إلى تحديث. وللأسف لم يُطبَّق منه إلا جزء ضئيل جداً. ذات الوضع لبرنامج الإصلاح الذي سبقه وهو البرنامج الثلاثي حيث لم تحدث أي تطبيقات لمُقترحاته. لذلك لا توجد سياسات واضحة لمعالجة الاختلالات، وبدلاً عن ذلك نُركِّز على محاولة محاصرة بعض المظاهر، وهذه طبعاً لا يمكن أن تكون بديلاً لمعالجة الاختلال، فعلاج مظاهر المرض لا يُعالج المرض بل قد يؤدِّي إلى ظهور أمراضٍ أُخر (. هذه الشهادات تدل على عجز الحكومة عن تبني برامج اقتصادية محددة وسياسات تحرص على إعدادها في ضوء المعطيات الموضوعية وتتخذ التدابير اللازمة لتنفيذها. ولذلك فهي تتأرجح بين بدائل وتجارب متعددة في سياساتها المالية والنقدية مع كل موازنة جديدة، أبرزها ما عمدت إليه مؤخرا من إجراءات أمنية لملاحقة الشركات والتجار وغيرهم من المتعاملين في سوق العملات الأجنبية.
ولكن ابتداءً، ما الذي ورثه نظام الانقاذ من مشكلات اقتصادية من العهود السابقة لانقلاب 30 يونيو 1989م؟ ولعلنا نجد الإجابة واضحة فيما اشتمل عليها “بيانه الأول” وقد أضفنا الأرقام بين الأقواس لحصرها في ثمانية عناوين. ونكتفي بهذا الموروث من المشكلات ولا نرى داعيا للمغالطة في مدى صحة ما نسبه البيان للعهود السابقة. خاطب البيان الأول ل ” ثورة الإنقاذ” جماهير الشعب السوداني فيما يتصل بالجانب الاقتصادي بالآتي:
)لقد تدهور الوضع الاقتصادي بصورة مزرية وفشلت كل السياسات الرعناء في إيقاف هذا التدهور ناهيك عن تحقيق أي قدر من التنمية (1) فازدادت حدّة التضخم و(2) ارتفعت الأسعار بصورة لم يسبق لها مثيل واستحال على المواطنين الحصول على ضرورياتهم إما لانعدامها أو لارتفاع أسعارها مما جعل كثيرًا من أبناء الوطن يعيشون على حافة المجاعة وقد أدى هذا التدهور الاقتصادي إلى (3) خراب المؤسسات العامة و(4) انهيار الخدمات الصحية والتعليمية و(5) تعطل الإنتاج وبعد أن كنا نطمح أن تكون بلادنا سلة غذاء العالم أصبحنا أمة متسولة تستجدي غذاءها وضرورياتها من خارج الحدود و(6) انشغل المسؤولون بجمع المال الحرام حتى عم الفساد كل مرافق الدولة وكل هذا مع (7) استشراء الفساد والتهريب والسوق الأسود مما (8) جعل الطبقات الاجتماعية من الطفيليين تزداد ثراء يومًا بعد يوم بسبب فساد المسؤولين وتهاونهم في ضبط الحياة والنظام).
وانتهاءً، ما الذي وصلنا إليه اليوم بعد (29) عاما حاولت فيها الانقاذ مؤخرا تحسين نهجها السياسي بصورة من صور المشاركة في الحكم أتاحتها لبعض القوى السياسية هي في الواقع محاصصة وترضيات سياسية، أحكم حزب الانقاذ الحاكم ” المؤتمر الوطني” هندستها ليكون صوته الأعلى دائما ويده العليا في كل الظروف فيما يتصل بالسياسات والقرارات في كل المجالات ، لا سيما الاقتصادي، الذي لا يشاركه أو ينازعه فيه أحد! فإلى ماذا انتهينا في كل واحد من المجالات الثمانية؟ ولئن كنا قد قبلنا برأي نظام الانقاذ فيما عدده من مشكلات ورثها من الأنظمة التي سبقته بسياساتها الرعناء كما وصفها، ترى هل سيغالط النظام ونحن نعدد ما آل إليه الحال اليوم في كل واحدة منها؟! هل ينكر النظام ازدياد حدة التضخم المفرط (Hyper Inflation) وآثاره على الفئات الضعيفة وذوي الدخول المحدودة الذين يشكلون غالبية المجتمع السوداني، وهل يتعامى عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات لمستويات خرافية يعجز عنها المواطنون؟ هل ينكر زيادة أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل العملة الوطنية (الجنيه) وعدم فعالية كل السياسات النقدية المتقلبة والقرارات الإدارية المتخذة لضبطها؟ هل يغالط النظام في انهيار كثير من المؤسسات العامة في القطاعات الانتاجية الزراعية والصناعية والخدمية، وتدني الانتاج والانتاجية وضعف حصائل الصادر من منتجاتها؟ هل يغيب عن النظام أن خدمات الصحة والتعليم “الأفضل” أصبحت فقط للقادرين على شرائها من مئات المنشآت الخاصة في تلك القطاعات، والتي نشأت جراء سياسة التحرير التي تم تطبيقها على عجل ودون مراعاة لآثارها السالبة على الفئات الضعيفة، حيث تم تقليص دور الدولة في تقديمها ودعمها، فتردت وانهارت لدرك سحيق في منشآت ومؤسسات الدولة المعنية بتقديمها لاسيما في الأقاليم خارج العاصمة؟ هل ينكر النظام استشراء الفساد وازدياد ظاهرة التعدي على المال العام بصورة غير مسبوقة في أجهزة الحكم على كل المستويات وفي المؤسسات والهيئات العامة وغيرها، والتي توردها تقارير المراجع العام في كل سنة مالية، على الرغم مما يواجه ديوان المراجعة العامة من صعوبات ومشكلات مهنية ولوجستية ربما تؤثر على موثوقية تقاريره؟ هل ينكر النظام أن الباب قد انفتح على مصراعيه لفئات من الطفيليين والمضاربين مارست التجارة والأعمال الهامشية مستغلة شركات حكومية تم إنشاؤها، ومستندة إلى فساد المسئولين في دواوين الحكومة وإداراتها في المركز والولايات وفي المصارف وغيرها؟ هل يتعامي نظام الانقاذ عن ضعف الولاية على المال العام، وسوء الإدارة والعجز عن تحديد وضبط صلاحيات المسئولين في مختلف مستويات أجهزة الحكم ومؤسساته، ومحاسبتهم عن عدم التقيد بتنفيذ النظم واللوائح المالية المحاسبية على ضعف تلك النظم وعدم التزامها المعايير المحاسبية لإصدار تقارير وقوائم مالية (حسابات ختامية) موثوقة، لاسيما وأن النظم المحاسبية نفسها ضعيفة وبحاجة للتحديث من الناحية الفنية والمهنية؟ وإضافة لكل هذا هل ينكر نظام الانقاذ الكلفة العالية التي تتكبدها الدولة للصرف على أجهزة الحكم الهلامية وغير المنتجة بكل مستوياتها وتشكيلاتها في المركز والولايات وهي تعج بمئات الدستوريين والتنفيذيين وآلاف الموظفين تم توظيفهم في إطار الترضيات السياسية وتتحمل الدولة تكلفتهم العالية من رواتب وبدلات وامتيازات وغيرها من مواردها الشحيحة؟
إن المتتبع للأداء الاقتصادي لنظام الانقاذ يجد أنه في عامه الأول 89/1990م بدأ بعدد من الإجراءات والقرارات الاقتصادية المتعسفة، طالت العديد من القطاعات وعانى منها حتى أصحاب البقالات ومحال الخدمات الصغيرة. وكانت أسعار السلع التموينية على سبيل المثال، وكلنا يذكر ذلك، تفرض فرضا وتعلن بالتلفزيون والإذاعة، وحاصرت الحكومة الشركات وأصحاب الأعمال ولاحقت كثيرا منهم وأظهرت بعضهم بمظهر المفسدين والمتلاعبين بقوت الشعب، واستعدت عليهم فئات مختلفة من المواطنين. ويذكر الناس كيف كانت قرارات نظام الانقاذ في بداية عهده فيما يتصل بالعملات الأجنبية، وكيف تجاوز كل الحدود حين لاحق وأرغم من لديهم تلك العملات من الأفراد والمغتربين والتجار ورجال الأعمال على بيعها بأسعار إدارية فرضها عليهم البنك المركزي فرضا. ومما يُذكر أن تلك الإجراءات أشير إليها في الوثيقة المسماة “البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي للأعوام 90/1993م” فقد نصت على أن العمل في المجال الاقتصادي خلال ذلك العام الأول تركز في، أولا: استعادة الحقوق الضائعة والأموال المنهوبة، وثانيا: إعادة إرساء العمل الاقتصادي على قواعد أخلاقية وثالثا: ترشيد وتنظيم استغلال الموارد الشحيحة ورابعا: إيجاد البديل والمخرج على أساس وطني مستقل ومنظور أخلاقي أصيل نابع من عقيدة الشعب. وفي ضوء تلك الموجهات اشتمل برنامج الإنقاذ الثلاثي على أهداف هي: (1) تحريك جمود الاقتصاد السوداني وتوجيهه نحو الانتاج (2) حشد كل الطاقات المتاحة وفتح الباب داخليا وخارجيا للمساهمة في تحقيق أهداف البرنامج (3) تحقيق توازن اجتماعي بحيث لا تتم عملية تحريك الاقتصاد على حساب الفئات الضعيفة اقتصاديا. وفي إطار ذلك البرنامج تم تحديد ثمانية مجالات رئيسة لتنفيذه وهي: الاستثمار، والسياسات المالية، والسياسات النقدية والائتمانية، والسياسات التجارية وسياسات دعم موارد العملات الحرة، وقطاع المؤسسات العامة، وقطاع الطاقة، والموارد البشرية، والقطاع الاجتماعي.
شهدت تلك الفترة أبرز حدث اقتصادي وهو بدء تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي (Economic Liberalization) والتي اعتمدها نظام الانقاذ. وأهم أدوات التحرير الاقتصادي من الناحية النظرية، هي تقليل دور الدولة في النشاط الاقتصادي وخصخصة المؤسسات العامة، وتحرير سعر العملة الوطنية مقابل العملات الأخرى، وفتح الباب للقطاع الخاص وتشجيعه وتقليل القيود عليه للاستثمار ولإدارة النشاط الاقتصادي في قطاعات الزراعة والتجارة والصناعة والخدمات وغيرها. والتحرير الاقتصادي سياسة تتبعها كثير من الدول لاسيما تلك التي تحكمها نظم ديمقراطية، فهي نظرياً صنو الديمقراطية السياسية. لكنها تتم بضوابط يعرفها الاقتصاديون تأخذ باعتبارها الظروف الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية في كل دولة تطبقها، وتضع التدابير اللازمة لحماية الفئات الضعيفة في المجتمع التي يقع عليها عبء تنفيذها. ولقد تزامن مع اعتماد سياسة التحرير الاقتصادي رغبة نظام الانقاذ في تحقيق رؤى إيديولوجية كثيفة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدبلوماسية وغيرها تم التعبير عنها بوضوح في وثيقة ” الاستراتيجية القومية الشاملة” 1992-2002م. ولم يكن أمام النظام لتحقيق تلك الرؤى الإيديولوجية غير تكريس السلطة السياسية والاقتصادية في أيدي كوادره والموالين له، وكان من أبرز الأدوات لذلك ما سمي ب “سياسة التمكين” التي فتحت الباب واسعا ليلج أصحاب الولاء السياسي في كل مجالات العمل الاقتصادي وغيره. واستتبع ذلك بالضرورة تيسير وإتاحة الفرص التجارية والائتمان لكوادر الانقاذ ولأصحاب الولاء. وفي مجال الخدمات العامة كالتعليم والصحة بدأت الدولة تتخلى عن دورها المعهود لتقديم تلك الخدمات لاسيما للطبقات الفقيرة. وتمت خصخصة بعض المؤسسات العامة لاسيما في قطاع الاتصالات والصناعة والخدمات ربما على عجل يدعو إلى الشك في مدى اتباع المعايير المحاسبية والأساليب المهنية لتقييم الأصول ( (Asset Valuation لبيعها بأسعار مجزية. ومن أبرز ما تم في تلك الفترة تنفيذ سياسة وقرارات “الإحالة للصالح العام” حين عمد نظام الإنقاذ لإفراغ الخدمة المدنية وأجهزة الدولة ومؤسساتها العامة من الكوادر المؤهلة ذات الخبرة واستبدلها بكوادر الحزب وغيرهم من الموالين للنظام. وقد صادمت كل تلك التوجهات والقرارات مرامي وأهداف سياسة التحرير الاقتصادي نفسها فأجهضتها، وبقي الباب مفتوحا لسياسات مالية ونقدية متقلبة ولقرارات وممارسات أفضت إلى كثير من التجاوزات وأدت في نهاية المطاف إلى العديد من المشكلات الاقتصادية العويصة التي تواجهها الحكومة اليوم.
لقد شاع أن السيد عبد الرحيم حمدي، وقد كان وزيرا للمالية في سنوات الانقاذ الأولى، هو “عراب سياسة التحرير الاقتصادي” وبعض الكُتاب والمحللين والمتحدثين في الشأن الاقتصادي لنظام الانقاذ، لاسيما المعارضين، يحملونه وزر تلك السياسة والاخفاقات التي صاحبت تطبيقها حتى بعد أن ترك الوزارة وهذا قول، في رأينا، مجاوز للحقيقة. فالتحرير الاقتصادي بكل آثاره وإخفاقاته هو مسئولية نظام الانقاذ، وهو سياسة ارتضاها وتمثل، إضافة لقرارات اقتصادية أخرى اتخذها، رؤية النظام لمعالجة القضايا والمشكلات الاقتصادية التي عددها في بيانه الأول. وكثيرا ما قارنت بين قرارات الانقاذ فيما يتصل بالتحرير الاقتصادي وقرارات نظام 25 مايو الخاصة بالتأميم والمصادرة، برغم اختلافهما الواضح، وبينت أوجه التشابه بينهما والمتمثل في “الجرأة السياسية” التي اتُخِذت بها القرارات في الحالتين، و”العجلة” في التطبيق و”اتساع نطاق التطبيق”. كذلك تتشابه التجربتان إلى حد ما في التراجع عنهما، فكما أن نظام مايو أمم وصادر الكثير من المنشآت في الفترة القصيرة 1969-1970م ثم بدأ بإعادة تلك المؤسسات لأصحابها في العام 1972م، فإن نظام الانقاذ أقر سياسة التحرير في بداية عهده في البرنامج الثلاثي 90/1993م ثم تحول لتطبيق سياسات نقدية إدارية لم تفلح في تحقيق الاستقرار النقدي ومعالجة التصاعد في سعر صرف العملة الوطنية وتأثير السوق الموازي. وعلى الرغم من سياسة التحرير والخصخصة التي اعتمدت وطبقت بموجب قانون خاص تم إصداره لها، قام النظام بإنشاء عدد من الشركات تملكها الدولة وتنافس شركات القطاع الخاص.
ولسنا هنا بصدد الدفاع عن السيد عبد الرحيم حمدي وهو ابن الانقاذ وقد عرفته المنابر موضحا لآرائه ومدافعا عن مساهماته، ولكن مثلما لا يمكن تحميل الرئيس نميري، رحمه الله، وحده مسئولية قرارات التأميم والمصادرة، لا يمكن في رأيي تحميل مسئولية تطبيق سياسات التحرير الاقتصادي وقراراته للسيد حمدي وحده. فهو كان ولا يزال من أكثر الاقتصاديين السودانيين اقتناعا بسياسة التحرير الاقتصادي ودفاعا عنها، وهو في كثير من آرائه التي ما زال يعبر عنها في المنابر المختلفة، منطقي مع هذه القناعة رغم أي اختلاف معه. وهو كذلك يتميز على كثير من كوادر نظام الانقاذ ممن شغلوا منصب وزير المالية من بعده أو ممن تولوا مراكز المسئولية في إدارة الملف الاقتصادي، بمعارف وقدرات وخبرة لا يستهان بها، ومعروف عنه أنه مصرفي منذ سبعينات القرن الماضي. لكنه رغم هذا نفي هو نفسه مقولة أنه “عراب التحرير” في بعض اللقاءات التي تحدث فيها عن تجربته كوزير مالية سابق شغل المنصب مرتين وغادره فيما يبدو لخلافات حول بعض السياسات. وقد أشار في بعض أحاديثه لما أسماه ” ارتدادات” عن السياسات أو القرارات اللازمة لتطبيق سياسة التحرير وضمان نجاحها.
وكما هو معلوم فإن التحرير كسياسة اقتصادية (Economic policy) وما ينبثق عنه من برامج (Programs) كالبرنامج الثلاثي الذي أشرنا إليه وبدأ العمل على تنفيذه في أول سنوات نظام الانقاذ، وبغض النظر عن الاتفاق والاختلاف حول جدواه، له استحقاقات لم تتقيد بها الحكومة. فالسيد عبد الرحيم حمدي، على سبيل المثال، كان وما زال من أنصار التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه السوداني مهما كانت الآثار والتبعات، وهو لا يرى حلا غير هذا لمعالجة سعر الصرف مع ضرورة الاهتمام بالإنتاج والانتاجية في القطاعات الاقتصادية المختلفة. وهو كذلك من أنصار التمويل بالعجز (Deficit Financing) كأحد الوسائل الهامة في ظروف السودان الحالية لتوفير الموارد اللازمة للتنمية، ولا ينكر الآثار التضخمية ( (Inflationary Effects لهذا النوع من التمويل لكنه يرى، وربما يختلف معه اقتصاديون آخرون في رؤيته، أنه لا مناص من الصبر على آثار التضخم وبذل الجهد لمعالجتها لتوفير الموارد ولتمويل الاستثمار في القطاعات الانتاجية وزيادة الصادر وتحقيق النمو الاقتصادي. وهو يدعو لجذب الموارد المالية من المواطنين بتحفيزهم من خلال الاستثمار في السندات الحكومية بعوائد مجزية. وهو أيضا ضد دخول الدولة وشركاتها ومؤسساتها كمشتر للعملات الأجنبية، ولا يرى وجها لهيمنة بنك السودان وفرضه أسعارا إدارية غير حقيقية للدولار وغيره من العملات بل يرى أن البنك المركزي يمارس بهذا عملا ليس من مهامه واختصاصه. ومعروف أن آثار سياسة التحرير الاقتصادي قاسية لاسيما في ظروف السودان ويتحمل أغلبها الفئات والطبقات الفقيرة وذوي الدخول المحدودة خاصة حينما يصاحبها التقليل من أو وقف دعم الدولة للسلع والخدمات وتصاعد أسعارها. ويقول السيد حمدي إن البرنامج الثلاثي الذي تم إعداده وبدأ تنفيذه على أيام توليه وزارة المالية كما سبقت الإشارة، تحوط لدرء آثار التحرير الاقتصادي على الفئات الضعيفة وكان من أهدافه التي نص عليها (تحقيق توازن اجتماعي بحيث لا تتم عملية تحريك جمود الاقتصاد على حساب الفئات الضعيفة اقتصاديا). ومن يدري ربما لو أن السيد حمدي وجد الفرصة للاستمرار بما بدأه لتحققت نتائج أفضل من تلك التي حدثت نتيجة التخبط والتردد في تطبيق سياسات مالية ونقدية في السنوات اللاحقة التي تولى فيها غيره حقيبة وزارة المالية ومراكز اتخاذ القرارات الاقتصادية الأخرى.
ونختم هذه القراءة بالقول إن نظام الانقاذ في البدء والمنتهى هو نظام حزب سياسي هو ” الجبهة القومية الاسلامية” جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري في 30 يونيو 1989م، وقد كان هذا الحزب أحد اللاعبين الأساسيين في المسرح السياسي السوداني وفي النظام الديمقراطي بكل سوءاته حتى ليلة الانقلاب. ومهما كانت دعاوى قادته وكوادره السياسية فهو، في رأينا، حزب سياسي سوداني ربما لا يميزه عن بقية الأحزاب في الساحة السياسية السودانية إلا تبني “التوجه الإسلامي”. وحتى بعد أن آل الأمر للمؤتمر الوطني الحاكم اليوم، بمكوناته المختلفة والمتباينة، فليس في سيرة الانقاذ الاقتصادية وسياساتها وقراراتها وما آل إليه حال الاقتصاد السوداني بعد ثلاثة عقود من الحكم، ما يدعونا للتفاؤل والقول بأن حزب المؤتمر الحاكم كان أو سيكون أفضل من غيره من الأحزاب السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ الاستقلال فيما يتعلق بتوفر الرؤية والبرنامج الاقتصادي الذي يعين في معالجة قضايا البلاد الاقتصادية. ولا ننكر أن الحزب الحاكم لديه الكثير من الكوادر في المجال الاقتصادي استعان بها خلال مسيرته منذ العام 1989م، وقد عُقِدت العديد من المؤتمرات الاقتصادية وورش العمل وغيرها، ومع ذلك ومنذ البرنامج الثلاثي في بداية التسعينات وإلى البرنامج الخماسي الحالي لم تفض الجهود والمعالجات إلى نتائج ملموسة تخرج البلاد من أزماتها المتراكمة. والعلة التي حالت دون ذلك، في رأينا، هي الانفراد بالسلطة والقرار وطغيان النهج الشمولي وغياب الديمقراطية. وهذا واضح فيما أكده السيد عبد الرحيم حمدي مؤخرا وأعتبره مفتاح الحل لأوضاع السودان الاقتصادية المتردية ومشكلاته الحالية، حين قال بعبارة صريحة وواضحة أوردناها أعلاه ونتفق معه فيها (الوضع ده كان معروف إنو حيحصل والحلول الرئيسية الآن في الحرية السياسية والاقتصادية). وعلى الرغم من أن الأحزاب السودانية التي حكمت في العهود الديمقراطية على قصرها، ما كانت تملك رؤية متكاملة لمعالجة قضايا البلاد الاقتصادية الشائكة، إلا أنها لم تكن لتجرؤ على اتخاذ قرارات مزلزلة وعميقة الأثر مثل “التأميم والمصادرة في عهد مايو” و “التحرير الاقتصادي في عهد الانقاذ” أو اعتماد برامج وسياسات اقتصادية مؤثرة ، دون مشاركة واسعة وأخذ ورد واستطلاع لآراء ذوي الاختصاص والاهتمام وإتاحة الفرصة واسعة للنقاش حولها والاستماع لوجهات نظر المؤيدين والمعارضين، إلى غير ذلك من الممارسات والضوابط اللازمة التي تتيحها الديمقراطية بما توفره من حرية سياسية واقتصادية.
لقد خرج نظام الإنقاذ “يحتطب” في ليل شديد الحلكة والظلام، لمعالجة ما ورثه وما تسبب فيه من أوضاع اقتصادية شائكة وأزمات متلاحقة، وطفق يجرب حظه بسياسات متقلبة وقرارات غير محسوبة النتائج، فوقعت يده على “أفعى” المشكلات العويصة، ومن يدري ربما أصابه من تلك الأفعى ما أصاب حاطب الليل، كما ورد في الرواية عن ابن عيينة وابن الجوزي!