في المؤتمر الصحافي، الذي أعلن فيه رئيس الوزراء، (وهو المنصب الأول من نوعه) منذ انقلاب الثلاثين من يونيو 1989 ، تشكيلة حكومته، بدا واضحا لمن تمعًن ملامح وجه وابتسامات، و” قفشات” نائب الرئيس ورئيس الوزراء الفريق بكري حسن صالح وهو يخاطب الصحافيين ، أن الرجل سعيد بإعلان ميلاد حكومته في ظروف صعبة، لا تخلو من ” طرافة”، ومن دوافع وأسباب مثيرة” للضحك”.
لكنه لم يفعل لأسباب تتعلق بهيبة الدور والموقع، وفي مقدوره أن ينفجر ضاحكا في جلسة خاصة مع الرئيس عمر البشير، حينما يتأملان كيف نجحا في انضاج ” طبخة” الحكومة الجديدة، على نار “ساخنة” لا “هادئة”.
ملامح وجه بكري أثناء المؤتمر الصحافي، ولغة اليدين والعيون و” الابتسامات” المخنوقة رسمت بوضوح بعض سمات المشهد السياسي، وكيف كبت ابتسامته كي لا ينفجر ضاحكا على تهافت هذا الوزير أو البرلماني على المنصب أثناء الإعلان عن تشكيل حكومة وصفت بـ ” حكومة الوفاق الوطني”..
هذا المشهد عكس للمتأمل بعض حقائق الواقع السياسي السوداني الراهن ، بمراراته، وبؤسه، ودلالات سيناريو ” التوزير”، الذي يعتمد على أضفاء صفة ” سعادة الوزير أو الوزيرة” على أناس لم يحلموا حتى في النوم بإمكان تولي هذه الحقيبة الوزارية، أو نيل تلك العضوية البرلمانية التي تتيح الجلوس على كرسي مريح، لكنه يضعهم تحت مجهر التاريخ وأحكامه.
كيفيات “اصطياد” الوزراء القدامى و الجدد متعددة لدى كبار” الانقاذيين”، لكن من أهم شروط الوظيفة والمؤهلات المطلوبة ” للتوزير” والتعيين اثبات القدرة على التآمر بشق صفوف الأحزاب ” المُمانعة” والحركات ” المتمردة”، أو تأكيد قوة ” ” الحنجرة”، لإثارة الضجيج، ومهاجمة وتشويه صورة من تسول له نفسه معارضة النظام، فالمطلوب أن يبرهن طالب الوظيفة ويؤكد ولاءه وطاعته، من خلال نسج المؤامرات ضد من يرفع صوته، أو قلمه، منادياً بالحرية وحقوق الانسان و العيش الكريم.
في هذا السياق لا نستغرب أن يسارع من حظي بالرضا وقرار التعيين الى شن “هجمات برلمانية” كاسحة، لا تستثني أحدا، وربما تبدأ الهجمات بعمليات “كلامية” ساخنة، مفتعلة، ضد الفساد المالي والاداري المستشري ، وربما ضد عينة مُختارة من “رجال الانقاذ” يريد النظام تطويعهم وتأديبهم، في محاولة من الوزير أو البرلماني الجديد لاثبات استقلالية (مفقودة) بشأن التفكير الحر، أو ربما لابراء الذمة، أمام الشعب الذي يشاهد مسلسل تبديد ثروات البلد وتحويلها لجيوب خاصة ، هذا إضافة الى ما يلمسه ويسمع عنه الناس بشأن عمليات القمع المُمنهج.
أيا تكن الأدوار التي سيلعبها من جرى تعينهم ، سواء من حملوا حقائب وزارية، أو جلسوا على مقاعد ” البرلمان” فالمؤكد أن ” حكومة الإنقاذ” نجحت نجاحا باهرا في اعداد طبخات شدت الأنظار، واسالت لعاب اللاهثين والمتهافتين على المناصب.
مشهد كوميدي تراجيدي، شد أنظار القريب والبعيد، خصوصاً، حينما فوجئ مراقبون للشأن السوداني في الخليج مثلا بأن عدد الوزراء ووزراء الدولة في الحكومة السودانية الجديدة تجاوز الـ 70 شخصا ( هذا غير الوزراء في الولايات)، إذ لم تجرؤ اية دولة خليجية أو غربية ، رغم المال الوفير على تعيين هذا الكم من الوزراء.
في الخليج أو في الدول المتقدمة في أميركا والدول الغربية، لا يعترفون بنهج ” المحاصصة” بهذا الشكل القبيح، واذا حدث تمثيل للقبائل في الخليج في الحكومات أو البرلمانات لخلق توازنات وتوسيع دائرة التمثيل (لأن القبائل هناك أشبه بالأحزاب على طريقتهم ما عدا الكويت التي توجد فيها تجربة سياسية وحزبية عريقة )، فان عدد الوزراء في دول الخليج الست ( السعودية والامارات والبحرين وقطر وسلطنة عمان والكويت) معقول و محدود.
بكري أظهر ابتسامات ” مكبوتة”، وكان في مقدوره أن يضحك ضحكة مدوية، وهو يرى نجاح نظامه في استقطاب هذا العدد ” الهائل” الذي ركض أصحابه حتى حفيت أقدامهم، وما يزال بعضهم ينتظر قرار الرئيس بإجراء تعديلات وزارية في مرحلة مقبلة، بعدما يتم تدجين الوزراء الحاليين، وضرب مفاصل أحزابهم، تمهيداً لضم “منشقين” جدد.
كان لافتاً أن رئيس الوزراء أعلن في إشارة ذات دلالات أن ” الكتل قدمت 1500 شخص” لتعيينهم في الحكومة الجديدة ، هؤلاء يرون أنهم مؤهلون بولائهم للنظام للحصول على شرف ” التوزير” لا عبء التكليف،.
مثلا سعى هولاء بجد واجتهاد الى شق أحزاب ” المُمانعة ” ، وحركات رافضة للحلول الجزئية لأزمات البلد ، أي أن ذلك النفر سدد بجدارة فاتورة الهجوم الكاسح على معارضي النظام (الانقلابي المستبد) ، وبعضهم تطوع لهذا الدور في سبيل التقرب الى الحاكم، كي يحظوا بالمناصب، ويحصدوا الشهرة والراتب ومزايا أخرى غير مرئية،يحصل عليها الوزير و البرلماني.
في هذه الأجواء بدا الرئيس مرتاحاً، وليس من حق أحد أن يصادر حقه في أن يفاخر من دون أدنى حرج ، ويقول ” بعض الوزراء سمعوا بأسمائهم لحظة إعلان الحكومة، لأننا لم نشاورهم”، طبعا لا أحد يصدق أن اللاهثين وراء المناصب لم يكونوا على علم بحقائبهم الوزارية، أي يمكن أن نصدقه اذا كان يعني الوزراء الذي ينتمون لحزبه ( المؤتمر الوطني)، فالسلطة كلها في يد الرئيس لا الحزب، لكن يحسب للرئيس أنه لم يزعم يوما أو يدعي بأنه ” رئيس ديمقراطي” أو ” داعية لحقوق الانسان”.
الرئيس لا يستشير من يعينهم من عضوية حزبه ( المؤتمر الوطني) ، لأنه يمثل الحزب كله، أما الباحثين عن نصيب من” الكعكة الصغيرة” من أحزاب وحركات منشقة أو من يمثلون أنفسهم فقط، فقد سلموا أسماء المرشحين (للوزارة والبرلمان) الى الرئاسة وبعضهم احتج علانية أو سرا لانتزاع مكان وسط الزحام ، أي أن هناك من انتزع نصيبه بقوة ” الحلقوم”.
القادمون الجدد من خارج ” الحوش” الحكومي ضمتهم قوائم جرى تسليمها للرئاسة، ولم يفاجأ من جرى تعيينه من هؤلاء بسماع نبأ تعيينه عبر المذياع أو التلفزيون.
ما جرى من طبخات ومساومات وأساليب استرضاء يؤكد ” مهارة” عالية يتمتع بها القابضون على الكرسي الساخن، وقد يصلح ذلك لعمل مسرحي ، ربما يكون عنوانه ” ابتسامات بكري .. والمتهافتون” ، أو ” ابتسامات بكري.. ولسان الرئيس”، فالرجل ( بكري) يحسب له أنه ” ابتسم ” ، وهو – كعادته – يرسل رسائل عبر الابتسامات، ولغة العيون، ولم يعرفه السودانيون يوماً بأنه صاحب “لسان طويل “، لديه قدرة على ضبط الانفعالات، في اللقاءات الجماهيرية، وعلى شاشات الفضائيات. وهذه سمة إيجابية تُحسب لرئيس الوزراء، والمأمول أن يحافظ على هذه السمة بعدما تولي رئاسة الحكومة، وهو يعرف أن السودانيين يمكن أن يختلفوا ثم يتفقوا، لكنهم لن ينسوا الألسنة الطويلة كلسان الرئيس البشير و مساعد الرئيس السابق نافع علي نافع، على سبيل المثال لا الحصر.
الرئيس يمارس القمع ، ومع ذلك فهو مشهور عالمياً، بأنه لا يتردد في شتم خلق الله داخل السودان وخارجه، هو يكيد ويذم “على الهواء مباشرة”، و بشراسة لافتة لا يحسده عليها أحد، ولا يستثني حتى من يدعوهم الى ” الحوار الوطني”، وعندما يرفضون الحوار معه، لأسباب منطقية أولها غياب الحريات يمارس هواية الشتم.
وهاهو النظام يقدم أحدث دليل على ديكتاتوريته، بمنع القادة السياسيين من مخاطبة المواطنين في لقاءات جماهيرية في الهواء الطلق، كما حدث أمس (13 مايو 2017) لوفد حزب “الامة القومي” بقيادة رئيس الحزب الامام الصادق المهدي (وهو آخر رئيس وزراء منتخب منذ 1989).
الوفد بقيادة المهدي مُنع من اكمال جولته لتشمل اليوم ( 14 مايو 2017) مدينة النُهود ( في غرب كردفان) بعد الأُبيض عاصمة ولاية شمال كُردفان، منعوه والوفد المرافق، بعدما شاهد مسؤولو النظام كيف استقبلت، وأحتضنت الحشود المهدي في الأُبيض المدينة التاريخية الثائرة، وهي تسير على الأقدام، أو ترحب به بطريقتها وتراثها، وهي تمتطي الخيول والإبل في مشهد تاريخي أخاذ.
رغم استمرار الأساليب القمعية للنظام الديكتاتوري، يتحدث الرئيس عن ” الحوار”، ويطلق في الوقت نفسه الشتائم، ويصف الممانعين الرافضين للإملاءات بأنهم عملاء وخونة….
السؤال المحيًر، لماذا تسعى الى محاورة الخونة والعملاء؟