تدهورت معيشة السودانيين فوق توقعات أشد المراقبين تشاؤماً. بيد أن مشهد التدهور لم يكن خافياً منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. حينها سخرت الإنقاذ كل مقدرات البلد لقتال أهلنا في الجنوب تحت رآيات الجهاد. وقبل أن يُسدل الستار على حرب الجنوب، اُضرمت نيران الحرب في دارفور بعبثية صبيانية كان من نتائجها أن أصبح رأس مدبرها في صدارة قائمة المطلوبين للعدالة الدولية، فضلاً عما تمخض عنها من قتل أكثر من 300 ألف مواطن وتشريد آلاف آخرين ونزوح قسري للآلاف، ووضع إقليم بكامله تحت وصاية قوات الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.
منذ مارس 2009م، ظل الرئيس البشير مطارداً ومرفوضاً في كل مكان في وقت تشتد فيه حاجة بلاده لقيادة تستطيع أن تبدع سبلاً لتعاون مثمر مع شعوب عديدة من حولها، أخذاً وعطاءً.
نعم كانت الدلائل تشير إلى أن شهية الإنقاذ مفتوحة على مصراعيها لعداوات لا طائل من تحتها. تزامن ذلك مع إقصاء الآخرين وتدمير قدرات تراكمت عبر السنين لدى المجتمع المدني الذي يعتبر من أكثر المجتمعات حيوية وحراكاً في المنطقة برمتها. كانت الإنقاذ لا تقبل أدنى اعتراض على شعاراتها الفضفاضة والخاوية من المعنى. إذ ترى أنها شعارات مستقاة من فهم ثاقب ودارج للنصوص، وبالتالي فإن الخروج عليها يمثل خروجاً صريحاً على روح تلك النصوص المقدسة!
كان التدهور واضحاً ومطرداً منذ زمن بعيد.
الصفوف سمة حياة المواطن
محطة بنزين تحولت إلى مسجد يؤمه المنتظرون
إلاّ أن ميزانية 2018م المشؤومة قد سارت بالتدهور إلى منتهاه، معلنةً الحرب على المواطن الغلبان. بدأت المعركة بالتدني المريع لقيمة الجنيه السوداني مقابل العملات الأخرى، وفي صدارتها الدولار الأمريكي. إن مؤشر قيمة الجنيه مقابل الدولار يكتسب أهمية في ظل اقتصاد يعتمد على الواردات. ذلك أن هوجة «نأكل مما نزرع» التي تصدرت المشهد في بداية عهد الإنقاذ قد ذهبت أدراج الرياح.
وتزامن تدهور الجنيه مع ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وفي صدارتها الخبز؛ ثم ندرة غاز الطبخ؛ ثم ظهور الصفوف الطويلة أمام محطات التزود بالوقود. فالإخوان المسلمون وحدهم قادرون على صناعة الأزمة ـ بألف لام التعريف ـ ووحدهم قادرون على استدامتها ومسؤولون عن استفحالها.
استمر التدهور وشمل كافة مناحي الحياة. وبسبب الإقصاء المنهجي للآخرين، دمرت الخدمة المدنية وانتفت النزاهة وهيمن الفساد على المرافق والخدمات. حتى التعليم طاله الفساد، لتطرق مسامعنا لأول مرة في تاريخنا قصص بيع الامتحانات؛ وتلاعب بمواصفات طباعة الكتاب المدرسي في فيتنام؛ وتوزيع فرص التعليم الجامعي بحسب الولاء… هكذا اهتزت القيم الأكثر رسوخاً في أعراف السودانيين. كان التعليم قبل الإنقاذ جبلاً أشم يظلل البلد بسمعته الطيبة وعطره الآسر ونتائجه الباهرة، إذ يرفد الحياة بكوكبة نيرة من المتخصصين والمهنيين المميزين في كل دروب الحياة من طب وهندسة واقتصاد وقانون وآداب وعلوم وزراعة وبيطرة، وخلافها.
أزمة متكررة في الغاز
في ظل هذا الوضع المأساوي، لن نقبل من رجال الدين، وخاصة في خطب الجمعة المعدة بإشراف جهاز الأمن، أن يطلبوا منا الصبر أكثر مما فعلناه حتى يومنا هذا.. ولن نقبل تسويغ ما يحدث بأنه ابتلاء من الله. وأن ما يحدث من تدهور اقتصادي يحدث مثله في عدة أماكن في العالم. فإن كان الأمر مجرد ابتلاء من الله، فلماذا يخصص الحزب الحاكم يوماً كاملاً من مداولات مؤتمر الشورى الأخير لمناقشة سبل الخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة؟ أتراهم يريدون الاعتراض على ابتلاء رباني بتدابير بشرية؟
إن الابتلاء الحقيقي الذي يتعرض له الشعب السوداني يتمثل في تسلط زمرة الإخوان المسلمين على مقاليد الأمور منذ 1989م… ولن يخرج هذا الشعب من هذا الاختبار ويضع حداً لورطات مستمرة ومستفحلة إلاّ بإنهاء حكم الإنقاذ.
لكن متى ينتهي حكم الإنقاذ؟ عندما نتسلح بالشجاعة الكافية للخروج عليه في كل بقعة من بقاع السودان، وعندما نقاطعه بكل ما أوتينا من قوة. وعندما نمتنع طواعيةً عن التعاون معه سواء في دفع الضرائب والإتاوات المتعددة أو غير ذلك من سبل تعاون تعدّ من باب التعاون على الإثم والعدوان!