قال تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (القلم:1).
يقول أهل العلم أن الله تعالى لا يقسم الا بعظيم، وحين أقسم الله تعالى بالقلم، فذلك لأهميته، ولمسؤوليته الجسيمة في عملية التعلم (مفتاح الحياة)، ونقل المعلومة. وهذا ما يعني أنه ليس أداة كتابة فحسب، بل وسيلة تعليم تنقل المعارف، وتصقل المواهب، وتترجم المعرفة المكتسبة إلى منافع في واقع عملي ملموس.
والقلم إذ ينداح ينثر الدرر في كلمات، ليس كالكلمات، وينقل المشاعر، وما يجيش في الخواطر؛ لتحدث الكلمه أثراً عميقاً في النفس سلباً أم إيجاباً، لهذا قال النبي الكريم: “إن من البيان لسحرا.”
القلم أداة سحرية، سرها خطير، وفيها عبر مكنونة، وعبر مستقاة. كما في قوله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (الكهف: 66).
وما يؤول من القصة .. تعلمت من اليراع
في مثال حقيقي لثمن التعلم بالتضحية، والإخلاص ليقدم حبره إليك آملاً أن تخط به ما ينفع، ويسعد الآخرين؛ قبل أن تفاجأ يوماً ما بأن ذلك الحبر قد انتهى، لتكون نهاية قصة ذلك القلم في هذه الحياة، تاركا السؤال القديم الجديد :ماذا ترك لنا من أثر قبل رحيله؟!
ولنسقط تلك الرحلة على مشوارنا الفردي، لنرسم خطاً في لوحة النهاية لمشوارنا كيف سيكون؟!! ولنتأمل فيما أنجزنا، وفيما كان يحب أن ننجز، وكم تعلمت من قلمي، وبه علمت. ففي الحديث عن القلم مهما اختلفت الألوان والأشكال فالمهمة واحدة ومشتركه وهكذا حالنا… نحن البشر رغم اختلافنا إلا أن مهمتنا العظيمة ومسؤوليتنا المشتركة ان نوظف اليراع فيما يخدم الهدف من وجودنا : مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات: 56)، ولكل منا بصمته يعبد بها ربه لتكتمل اللوحة.
ومن يراعي أخذت الحكمة، وهي يجب أن نتسم بقبول الخطأ، والإيمان بوجوده؛ لأننا لسنا ملائكة! بل مجبولون علي الخطأ “ونحتاج كثيراً إلى من يأخذ بأيدينا لتصويبه، فكانت رفيقة اليراع الممحاة، وكان اختراع المزيل لمسح أخطائه. ليعلمنا درساً مهماً بأن الكمال لله وحده، ولنتذكر نقصنا دوما بأننا بشر نخطيء ونصيب، والأهم أن نسمح للآخرين بتصويب أخطائنا ونردد هذه العبارة: (اعتذر فأنا بشر).
لقد علمني القلم بان نثر مداده في أي صفحة إنما يعكس القدرة التي يمتلكها بغض النظر عن لونه وحجمه، ولون الحبر المستخدم والقدرة عندي يعنيان إثارة الحروف وتناغمها، مع لون تلك الصفحة؛ لتكون بصمه وأثرا وجنوناً وإبداعا فبعض الإبداع جنون.
وهذه الحياة عزيزي القارئ صفحات وسجل، فحدد ونفذ في الوقت وللمكان المناسبين، قبل أن تطوى كطي السجل للكتاب؛ لعلك تترك بصمة مطلوبة أينما حللت وارتحلت، وأنت من يختار نوع بصمتك التي تود تركهاوحجمها.
فكن كيساً فطناً ولبقاً إن كنت تواقاً للمعالي، وتذكر قول القائل:
ما كل من هز الحسام بضارب وما كل من أجرى اليراع بكاتب.
ولقد تعلمت من يراعي أن خطه غير متشابه، وأحياناً غير متكيف مع الزمان والمكان والمقال. لأنه يتمتع بحرية الترحال كما النوارس، وبحرية الإرادة وتحمل المسؤولية؛ ومراعاة واقع الحال، ومقتضاه، فالحرة لنا ولسوانا، ولمن حولنا، وحرية اليراع حق إنساني شريطة احترام الزمان والمكان، وتحمل التبعات.
ولقد تعلمت من يراعي أن وجوده بين أناملي في أغلب الأحيان دليل على عافيتي الإبداعية، ودليل اجتهاد المرء، وثقافته، ومكانته، لا عجب ان علقه تباهياً بَعضناً، لأنه غالباً ارتبط بالعلم والتعلم؛ وبالثقافة والمثقف، وانطبع وجوده في أذهاننا بالإيجابية، والنفع في الحياة، وبالصفات الحميدة والخصال السمحة.
بل علمني يراعي الكثير المثير: بأن العبرة ليس بطول العمر أو قصره، بل بفعالية الوجود، وكريم الاثر؛ فلا يوجد عمر للقلم، بل ينتهي بانتهاء مداده الذي يعدّ مؤشراً لاكتمال مهمته في سطور الورق، فيترك إرثاً عظيماً يخلد فكرنا، ويكتب لنا من بعده عمراً ثانياً، ووجوداً، بعد الفناء، وبعد الرحي.
من هنا، اهميه الوقت الممنوح لنا؛ لنكون فعالين ومؤثرين. ‘اترك إرثاً يشغل فكر من حولك، واحرص على كريم الأثر، وتذكر قول المتنبي :
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ولقد ترك المتنبئ أثراً جعله يمشي بيننا إلى اليوم، وسيستمر، وتلك هي اهميه التأمل في وظيفة اليراع، وأهمية التفكر في دلالات الآية 65 من سورة الكهف.
مسقط -سلطنة عمان