ليس ثمة شك أن الإمام الصادق المهدي، كما تؤكد مسيرته السياسية واجتهاداته الفكرية ومنازلته للنظم الشمولية، علی مدی سنوات نضاله الطويل، يمثل، دون مبالغة او تزييف لحقائق التاريخ، ركناً ركيناً في صرح الحكم الديموقراطي بالسودان، عبر مساعيه المثابرة والمستميتة التي تجلت من خلال محطات نضالية كثيرة واجهها عدد من التحديات التي واجهها الرجل بصلابة واقتدار وحكمة، فاستطاع أن يتجاوزها إلى بر الأمان، وهو أكثر قدرة على المواجهة، وأكثر استعداداً للمضي قدماً في مشوار التحدي الهادف إلی توطين الديموقراطية بالسودان، وإرساء قواعد دولة القانون التي من شأنها أن تنقل بلادنا إلی حيث نتطلع جميعاً.
وفي سبيل تحقيق هدفه السامي هذا، فقد ظل الرجل يواجه الحكومات الشمولية المختلفة منذ دخوله المعترك السياسي وحتی الآن متسلحاً بسلاح الإيمان والصبر علی الابتلاءات والشدائد والحكمة، عاقداً العزم علی بلوغ مرامه مهما كلف الأمر.
وقد لاقی في سبيل ذلك ما لاقی، حيث ظل علی الدوام مستهدفاً هو وحزبه (حزب الامة القومي) من قبل كل الحكومات الشمولية.
ودفع ثمن ذلك سجناً وحرباً نفسية، إضافة إلی مصادرة أموال وممتلكات، وخلاف ذلك من أنواع الحرب الهادفة إلی كسر إرادته وتقديمه تنازلات معينة. غير أن كل هذه المحاولات والمساعي التركيعية تكسرت عند صخرة إرادته الصلدة، ومبادئه الراسخة، فلم تنكسر شوكته، ولم تلن له قناة، ولم يتزحزح عن مواقفه السياسية الثابتة.
غني عن القول إن استهداف حزب الأمة والإمام الصادق من قبل الأنظمة الشمولية يمثل أسطع دليل علی براءته من تهمة العمالة (للإسلامويين) التي ألصقها به، زوراً وبهتاناً، عبدالوهاب العمرابي في مقاله الأخير الذي تناقلته بعض وسائل التواصل الاجتماعي.
وبجانب هذا، فقد ظل الإمام الصادق، وهو، بلا شك، مفكر شامل من الطراز الأول، ظل يرفد الساحة الفكرية والسياسية برؤاه السياسية الثاقبة التي حفلت بها مؤلفاته الكثر، والتي يتمحور عدد منها حول ضرورة التواضع علی نظام حكم ديموقراطي معافی يلبي تطلعات الشعب السوداني في العيش الكريم، والرفاه، والتطور. كما يؤكد نشاطه وحراكه الفكري الواسع حرصه علی إقامة النظام الديموقراطي في السودان وترسيخه.
علاوة علی ذلك، فإنه ينطلق، في معارضته للنظام، من إسقاطه بالطرق السلمية، بعيداً من الانزلاق في مستنقع العنف المعروف بعواقبه المدمرة، وذلك بهدف تجنيب البلاد مخاطر التمزق والدمار.
وقد انتهج الإمام نهج الحل السلمي بعد قراءة حصيفة وواعية للراهن السياسي في ظل (الإنقاذ)، إذ توصل إلی حقيقة أن الحل السلمي هو المخرج الأفضل للبلاد. وتبعاً لذلك فقد مضی قدماً في هذا الطريق في إطار ما أسماه (بالجهاد المدني). وقد تعرض بسبب هذا الموقف إلی نقد بعض الذين فسروا موقفه هذا بالمهادن، في حين وصفه آخرون بالحكيم.
ولا شك أن التجربة السياسية الطويلة للإمام الصادق تجعل من تقديراته السياسية ورؤاه أقرب إلی الصواب من غيرها، مع قابليتها للأخذ والرد؛ بغية رفدها بما يعززها من الأفكار والرؤی والمقترحات من قبل الآخرين.
غني عن القول إن الإمام الصادق، كغيره من البشر يصيب ويخطئ، إخفاقاته وتقديراته غير الصائبة يعترف بها هو نفسه، بيد أنه لا يختلف شخصان في أنه ظل يمثل حجر الزاوية في إرساء دعائم الحكم الديموقراطي بالسودان عبر اجتهاداته الفكرية التي تمثل، في مجملها، نظرية حكم مؤهلة لانتشال السودان من راهنه المقعد، والتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها التطور.
من جهة أخری، فقد سعت كل الأنظمة الشمولية إلى خطب ود الإمام الصادق طمعاً في استمالته واغرائه للعمل معها، فعرضت عليه أرفع المناصب، إلا أنه استعصم بمبادئه وقناعاته السياسية الراسخة مؤكداً أنه رجل مواقف صلب، عصي علی المساومات، وكل المساعي الهادفة إلی كسر الإرادة، والاغتيال المعنوي للشخصية.
وفوق هذا وذاك فقد كان الرجل رقماً وطنياً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية سودانية. كما ظل يمثل محور النشاط السياسي المعارض، وملهم النضال الوطني بوصفه المرجعية الأساسية لكل قوی المعارضة.
ومما لا ريب فيه، أن رجلاً بهذه المواصفات، يتكيء علی مثل هذا الإرث النضالي الضخم، ويتمتع بكاريزما فريدة من نوعها، ليس من السهل أن ينكسر أو يساوم أو يحرق كل تاريخه المشرف، ويمارس العمالة للإسلامويين، وهي لا تليق به، ولا تشبهه، لا من قريب ولا من بعيد.
علاوة علی ذلك، فإن شخصية كهذه، ذات وزن دولي، ظلت تؤدي، عبر عدد من المنابر والمنتديات الدولية، أدواراً ملموسة في سبيل إشاعة معاني الأمن والسلم الدوليين علی مستوی العالم، من أجل مقابلة تحديات العصر الماثلة، لا يمكن أن تبيع مبادئها مهما كانت الإغراءات.
بقي أن اؤكد أن كل ما ساقه عبد الوهاب عمرابي، في معرض اتهامه للإمام الصادق بالعمالة لصالح (الإسلامويين)، لا يعدو أن يكون تهمة باطلة مبنية علی تحليلات فجة، واستنتاجات لا يسندها منطق سليم؛ كونها لا ترقی إلی مستوی الادلة التي يمكن ان يعتد بها.
إن الإمام الصادق يلتقي مع الإسلامويين، مثلهم مثل القوی السياسية الأخری ذات الطرح الإسلامي، في المشتركات الدينية التي يمكن أن تجعله يتفق مع بعض رؤاهم و أفكارهم، ويختلف مع بعضها الآخر، الامر الذي بدا معه، في بعض الاحيان، قريباُ منهم، غير أنه، ومهما التقی معهم في المشتركات الدينية أو المواقف الوطنية، عبر مد السياسة و جذرها، فانه من سابع المستحيلات أن يمارس العمالة لصالحهم، وهو يعي تماما قوتها التدميرية لتاريخه السياسي الناصع.