لا أدعي أنني كثير المتابعة لما تبثه الفضائيات عموماً، ولكن شدني حديث برنامج “زيارة إلى” وداد يعقوب، التي أدارها الإعلامي الطاهر حسن التوم بحرفية غاص خلالها في تفاصيل أعماق شخصية امرأة سودانية فاعلة، مسلحة بالعلم والمعرفة في دنيا المال والأعمال والإنسانية العميقة.
بارك الله في بيت أسرة أكرمها الله بالمال والعيال والفكر الناضج، فخصصت جزءاً من لقمة العيش والحب والرعاية الأبوية لمجموعة لا يستهان بها من فاقدي الأبوين (المايقوما).
قد تكون هي التجربة الأول لدار أيتام ضمن محيط سكن الأسرة بالسودان أو على المستوى العربي الافريقي وما أجملها من رعاية إنسانية نابعة من جذور عميقة في الترابط والتمازج.
وداد يعقوب لمع اسمها في دنيا سيدات الأعمال، ووضح أنها نسيج لإرث متكامل لتبادل الأدوار من الحبوبات والأمهات، ولنشاط ما يعرف بعلم الجينات، فأمها كما ذكرت في ذلك اللقاء الشائق أول من أدخلت تجربة مزارع الدواجن، وتهجينها بالمستورد، واستجلاب مكائن التفريخ..الخ.
وفي وقت مبكر كانت ضمن قائمة مزارعي السودان؛ مما يقودنا إلى استنتاج أن هذه الأسرة لها نهج اقتصادي راتب، وذات رؤية مستقبلية بعيدة المدى، كجسم يتواف مع سلة غذاء السودان.
فقد طرحت وداد جملة من الآراء النيرة التي قد لا يختلف عليها اثنان، كبلد غني بموارده الطبيعية، لا يفترض أن يجوع إنسانه بأي حال من الأحوال إذا وضع الماسكون بمفاصل حياة الناس منهجاً ادارياً وعملياً لما ينفع ويفيد، كحديثها عن ضرورة تطوير الصناعات المحلية التي يكون فيها المكون الأساسي لخيرات البلد من الذرة والفيتريتا، كما أفرغت حججها على ما يضيع من فرص ثمينة من إنتاجه للسمسم، وربما الصمغ العربي .. الخ.
تحدثت وداد بحرقة العارف الموجوع أن حقوق المزارع ضائعة تماماً، رغم أنه يجب أن يكون أحد أهم المحاور في عجلة الإنتاج، وذكرت في حديثها الضافي أنها بحثت عن الدعم الذي يقدم للمزارعين فوجدت النتيجة صفراً كبيراً، رغم أنه من المفترض أنه أحد أهم اعمدة بلد زراعي بامتياز؛ لتوافر كل المقومات الطبيعية.
إنها مأساة حقيقية تتمثل في ضعف التخطيط الاستراتيجي، وافتقاد الرؤية الثاقبة التي تصنع الفرص المبتكرة الصانعة لحياة الناس ومعيشتهم كتنمية مستدامة، وليس “رزق اليوم باليوم”، والعجز لتفعيل الخطط المحكمة والرؤى على أرض الواقع، والاستفادة القصوى من المزايا النسبية التي يتمتع بها السودان خاصة فى القطاع الزراعي والتصنيع الزارعي والإنتاج الحيواني والتعدين الخ.
وما رشح من أخبار تقول إن الاقتصاد الوطنى فى مأزق كبير وخطير انعكس سلبياً على معيشة الناس وحياتهم اليومية. قد يقول قائل إن وداد “منهم وفيهم”، برغم ذلك، فإن حديثها الصريح والشفاف كشف أن المراكب كلها لا تبحر لشاطئ الأمان تماماً كما فشلت مركب المناصير في حرمان قرية بأكملها من زهراتها، وينبوع حياتها، وبذور نمائها، حيث ابتلع النيل الهادر أطفالها، كأنه يشارك الأم السودانية ضيقها وضجرها.
اه اه اه .. إنها مأساة القرن العشرين وفاجعة السودان والام التى فقدت خمساً من أنضر ما ولدت “حليمة بابكر البصير” المكلومة حد الوجع. بنات النهر طلبة العلم اللائي ابتلعهن النيل، وهو أيضا أحسبه يتزمجر احتجاجا ًعلى عدم الاستعداد له بمراكب بمواصفات تضمن السلامة لركابه أو يجسر يربط تلك المناطق بعضها ببعض.
كما تحدثت وداد بحزن اليم أن ” 31 بنطوناً” فقط كفيلة بمعالجة المشكلة بطول النيل وتكلفتها غير كبيرة لكنها عظيمة الفائدة لسكان ضفاف النيل فهل من معتبر..
ليت الوزارة المختصة أو اتحاد أصحاب الأعمال يبادران استنباطاً من حديثها بطرح مناقصة عاجلة يتنافس فيها القادرون لحل قضايا تلك القرى والحلال، فبناء مدرسة لشهداء البحيرة لن تجدي، طالما معاش الناس هنا وهناك، وحراكهم مستدام لسبل الحياة بكل فئاتهم العمرية للصحة وللعلم وللمعيشة.
إن سياسة “تكسير المقاديف” وتبخيس الناس أشياءهم تماماً تشبه العقبات التي وضعت أمام “وداد بنت أمها” خلال مشروعها الطموح، وحلمها بأن تكون للمركبات نصيباً من الغاز، ووضعت العراقيل أمام القطار المتحرك، ففضلت “النحلة” أن تبقي كل المعدات الثقيلة غالية الثمن رهن للزمن بجوار دارها كالحجارة الصماء، لعل انفراجاً في فكر إدارة الازمات أو الماسكين بمفاصل الماعون الاقتصادي يقولون كلمتهم لاسيما وأن الغاز الطبيعي يطلق عليه “الطاقة النظيفة” الصديق للبيئة، وهو مستقبل الحراك فى العالم الحديث، فهو الآخر لم يجد الأيادي المحركة له تماماً كحواشات الزراعة التي جف حليبها ونضب انتاجها .
رفيق درب النحلة الدكتور جمال الدين عثمان يؤمن أن (الثوب بسند العمة) والرجال والنساء سواسياً في فكرهم وقدراتهم، وأنا استمع لإفاداته تمثل لي نهج رجل تربوي صوفي متعمق تقول فلسفته إن في بطون ثقافتنا الاسلامية والمجتمعية مخزون غني إن نحن استجلبناه برضا وتوافقية في أعمالنا وتربية أبنائنا لبناء الأسرة السليمة المتداخلة الامنة.
وداد التي تحمل شهادات علمية وجوائز عالمية وتجارب إقليمية ودولية لكثرة مشاركاتها وسفرها وبحثها عن الفرص المنتجة، وكانت صاحبة فكرة بنك الفقراء، أمتعني حديثها؛ لأنها لامست الجرح، ووصفت العلاج وحديثها يصل إلى القلب؛ لأنه “بدون رتوش”، وليس “كلام الطير في الباقير”، بل بحجج علمية، وتجارب مستقاة من هنا وهناك.
وقد التقيتها سابقاً واستمعت لها ضمن مشاركاتها بأوراق عمل بمؤتمرات نساء المال والأعمال فى السودان وقطر، لكن حديث الأمس بقناة 24 الذي أدار دفته الطاهر حسن التوم في اتجاهات محتلفة فتحت فيه مخازنها الفكرية الناضجة، وتجاربها الحياتية، وأبانت حيويتها الإنسانية.
وليت هذه الشامخة طالما توافر لديها المال والقلب الحنون تمد أياديها أيضاً لأطفال الشوارع ساكني البالوعات، وهي إحدى العلامات السوداء في جبين الخرطوم، وليت كثيرين يستمعون إلى ذلك الحوار النابض بالحيوية الصادق لاستقاء العبر والمضامين من أسرة سعيدة مكافحة فتحت حوش دارها الواسع لأطفال أيتام، قال عنهم الرسول الكريم (أنا وكافل اليتيم كهذين)، فأسكنتهم النحلة دارها بارك الله لها وبها، ولجهدها العلمي، ومنافحتها للحق، وليت المقادير تسوقها إلى منصب تنفيذي هو حق لمثل كفاءتها لتنزل أفكارها المدروسة بعلمية على أرض الواقع.
أكتب كتابي هذا وأعلم أن كثيرين “سيمدون ألسنتهم ويسكبون أحبارهم استهزاءً” لإجهاض الهمة والتقليل من حق قامة بارك الأم الولدتها تؤمن بقضية التنمية المستدامة، ونحلاتها نخلاتها فلذاتها سائرون على درب الجدية، والحراك الإنساني، بمثل ما تربت هي عليه؛ لخدمة مجتمعها؛ لأنها تحمل هموم وأوجاع أمة، في وقت قفل كثيرون قصورهم بـ “الضبة والمفتاح”، فشكراً أستاذ الطاهر لزيارتكم للنحلة، ونفض الغبار عن المسكوت عنه في صفحات هذه الإنسانية المسكونة بحب العمل المنتج والعطاء الانساني.
إعلامية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر