قمت والصديقان العزيزان المستشار البشرى عبدالحميد رئيس مجلس إدارة “التحرير” والأستاذ القاسم محمد إبراهيم بزيارة الفنان التشكيلي المبدع الدكتور راشد دياب في منزله أو قل متحفه، ثم في مركزه: مركز راشد دياب للفنون في حي الجريف غرب، الذي على قدمه أصبح يوصف بهذا المعلم الثقافي المشرف في عاصمة البلاد، التي تكاد تخلو من المعالم الثقافية التي على المنوال نفسه من الإبداع، المرتكز على مفهوم ورؤية.
وهذه الزيارة تأتي في إطار سعي “التحرير” إلى التوثيق للشخصيات السودانية الفاعلة في مجالات العمل العام في العموم، وفي ميدان الإبداع على الأخص.
وسبق للتحرير أن أجرت حواراً مطولاً مع الفنان راشد دياب، ولا تأتي هذه الزيارة انحيازاً له، بقدر ما هي محاولة لإعطاء تجربته حقها المستحق؛ لما فيها من مغامرة وتفرد، وسباحة ضد التيار.
أقول سباحة ضد التيار؛ لأننا في زمن تتحكم فيه المادة وتسيره، وأصبحت الأغلبية تلهث وراء هذه المادة جمعاً واكتنازاً واستثماراً، طلباً لها، ثم وقوعاً تحت سطوتها، فلا يكاد ينفك منها، مهما أوتي من مال، وعلو في البنيان.
أكثر ما لفت انتباهي في تفكير الفنان راشد دياب أنه يبدو منظماً وعارفاً ما يريد، ويلجأ أمثالي من الصحافيين لمعرفة فكر من يحاوره إلى تقليب الأسئلة وتحويرها، ليعرف ما إذا كان المحاور مرتب الفكر، أم أنه يقول “كلام والسلام”، أي يطلق لسانه بما تواتيه اللحظات من كلمات ومفردات قد لا يعنيها.
وعلى مدى يومي الحوار ظل الفنان ثابتاً ومؤكداً لفكرة محورية، وهي أن السودان غني بفنه وثقافته، وأن إبراز هذا الغنى لا يكون إلا بتعليم ممنهج ينطلق من تراث هذا الوطن وتربته، مستفيداً من تجارب الآخرين، من دون تقليد لها.
كما ركز في أهمية تلازم الثقافة والتعليم، لأن التعليم من دون ثقافة يخدم صاحبه، ولا يخدم الوطن، كما لا يغرس روح الانتماء في النفوس، وإنما يدفع إلى الأنانية، وتحقيق ذات الفرد، لا الجماعة.
وبدا الفنان مدركاً سطوة مجتمعنا السوداني الذي لديه تقاليد وعادات لا توجد في أي مجموعة بشرية أخرى، وهي بقدر ما تمثل ميزة، فإنها تبدو ضاغطة وقاسية، وتحتاج إلى أن يتكيف معها الإنسان ويتعامل معها؛ بما لا يؤدي إلى إهدار الوقت والجهد، وحكى عن تجربة شخصية له حققت له نوعاً من التوازن النفسي.
ومن عناصر التميز في تجربة راشد دياب أنه لم يقف مثل كثيرين منا عند حدود التنظير، ومعسول الكلام، ولكنه حاول أن ينزل رؤيته على أرض الواقع، فكان المركز الذي يحمل اسمه، ويتحدث واقعياً عن فكره، فكل لبنة فيه هي نتاج طبيعي لما يؤمن به، وترجمة بصرية ملموسة لقناعاته الفنية.
وراشد دياب يتحدث كثيراً عن “الثقافة البصرية” المفتقدة إلى حد كبير في مجتمعنا السوداني، فحاول أن يستفزنا عملياً بتأكيد أن هذا السودان بكل جغرافيته وتاريخه مترع بالجمال، الذي لا يحتاج إبرازه إلا إلى القليل من الجهد والمال.
وطفنا جميعاً في أرجاء المركز، ووجد كل منا ضالته في كل ركن من أركانه، فمن يريد أن يزين منزله سيجد عناصر في بيئته لا يكترث بها يمكن أن تمثل قيمة جمالية مضافة إذا أحسن استغلالها، ومن لديه مكتب أو مؤسسة صغيرة أم كبيرة سيكتشف أنه أهدر مالاً كان أولى به، إذا استلهم من هذا المركز الأشياء البسيطة التي يعطيها الفنان قيمة بإضافاته المغرقة في البساطة، وهكذا المؤسسات العامة والوزارات التي تهدر مال الشعب يمكنها أن تستوحي من فكر راشد دياب الممثل في هذا المركز ما يجعلها عنواناً لثقافة هذا البلد وحضارته، بدلاً من التقليد الأعمى الذي أفقدتنا مشيتنا.
هذا المركز –حقيقةً- مزار فني وثقافي يضيف لعاصمة بلادنا رئة ثقافية صحية يمكن أن نتنفس من خلالها هواءً عليلاً، وينبغي وضعه على خريطتنا السياحية بكل فخر، وحري بإعلامنا أن يبحث عن مثل هذا المبادرات المبتكرة ودعمها بكل ما تستطيع، وهي بالتأكيد قليلة ونادرة، ولكن قد يكون الدعم الإعلامي سبباً في إيجاد تيار للوعي والتنوير بقيمة الثقافة في خلق واقع أفضل وأجمل في زمن عزّ فيه الجمال.
شكراً لفناننا راشد دياب الذي آثر أن يكون في بلده معايشاً معاناته، بدلاً من أن يسوح في بلاد الآخرين مستمتعاً بما فيها من راحة ودعة، وشكراً له، وهو يبذل ماله في مجال لا يجروء على اقتحامه كثير أصحاب المال والأعمال، الذين يزيدون مدننا قبحاً بناطحات السحاب الأسمنتية والزجاجية، التي لا علاقة لها ببيئة بلادنا وتراثها.
الانحياز إلى الجمال لا يستطيعه إلا المبدع الحق، بل إن كثيراً من المبدعين أيضاً لا يوقدون شمعة، ولكن يقفون عند حد البكاء على الأطلالة، وقول “الله ينعلك يا حكومة”، إلا أن راشداً أوقد شموعاً تنير الدرب لمن يريد السير فيه.
Online Drugstore,cialis 5mg price,Free shipping,buy clomid and nolvadex,Discount 10%cialis black discount