عاد الحديث عن سد النهضة مجدداً إلى الساحة، بعد أن كسر رئيس الوزراء الإثيوبي حاجز الصمت، وكشف عن مشاكل تعترض سبيل المشروع، كان المسؤولون الإثيوبيون السابقون يتكتمون عنها تماماً، مع أن إكمال المشروع تأخر زهاء العامين، ولم يعلن أي مصدر رسمي أي تبرير لهذا التأخير الكبير إلى أن وضع رئيس الوزراء الجديد النقاط فوق الحروف، واتهم علناً مؤسسة حكومية تابعة للجيش الإثيوبي، هي هيئة المعادن والهندسة (ميتيك)، التي عهد لها بالأعمال الهندسية والكهروميكانيكية فلم تنجزها،
ولم يوجه الرئيس الإثيوبي اللوم لها وحدها، بل وجهه بطريقة غير مباشرة للسلطة التي اختارتها لهذه المهمة، بالفشل في أداء مهامها، إذ قال: “لقد سلمنا مشروعاً مائياً معقداً إلى أناس لم يروا في حياتهم إنشاء سد، وإذا واصلنا السير بهذا المعدل فلن يرى مشروعنا النور!!”.
لقد اتسم الإعداد لمشروع سد النهضة بقدر غير مبرر من الغموض والسرية، رغم أن المشروع كان يهدف لإنشاء أكبر سد في إفريقيا، والطاقة التي سيولدها غير مسبوقة في القارة، وهي تبلغ ثلاثة أمثال الطاقة التي ينتجها السد العالي، الذي كان من أضخم السدود حين إنشائه، وأمره يهم دول الحوض جميعاً.
ولقد أرادت إثيوبيا بهذه السرية إخفاء حقيقة السد وحجمه عن دولتي المعبر والمصب لنهر النيل (السودان ومصر) التي كانت إثيوبيا تتوقع معارضتهما للمشروع، ولذلك فاجأتهما بالإعلان عن موعد وضع حجر الأساس لسد النهضة في أبريل عام 2011م، دون أن توفر لهما كل الوثائق المتعلقة بتصميم السد، كما تقتضي الأصول والقوانين الدولية، ودون أن تحصل على موافقتهما المسبقة، لكن إثيوبيا الرسمية تعمدت أن تضع الدولتين أمام الأمر الواقع.
لقد كان لهذا الأسلوب الذي يفتقد الشفافية ولا يتقيد بالأصول المرعية دولياً، أثره في عدم حصول إثيوبيا على دعم مالي من الدول الصديقة، أو مؤسسات التمويل الدولية التي أحجمت عن التمويل، لأن إثيوبيا لم تحصل على موافقة دول الحوض، فواصلت أسلوب التحدي، وقررت أن تبني السد الذي تقدر تكلفته بحوالي ستة ونصف مليار دولار، وهي قطعاً أكبر من الطاقة الادخارية للشعب الإثيوبي، لكنهم قابلوه بكل الحماس الوطني العالي واشتروا من السندات الحكومية جهد طاقتهم، بل وتبارى الإثيوبيون المغتربون في الشتات في دعم المشروع مادياً، ولكن كل ذلك لم يقترب من توفير المبلغ المطلوب، وأدخل الحكومة في ديون داخلية اقترب ميعاد سدادها، وساهمت في خلق واقع اقتصادي داخلي متأزم سعى رئيس الوزراء الجديد إلى معالجته،
وقد بدأت المعالجة بميزانية هذا العام التي خلت من أية مشروعات تنموية جديدة، وخصصت نسبة معتبرة من اعتماداتها المالية لمحاربة الفقر، وركزت على إكمال مشاريع التنمية قيد التنفيذ، ومن بينها سد النهضة، وهي تحتاج – حسب ما أعلن رئيس الوزراء – إلى سبعة ونصف مليار دولار، وهو ينوي أن يحصل على قروض من دول صديقة، واتصالاته الخليجية تأتي في هذا الإطار،
وستكون الأجواء العالمية أكثر تعاطفاً مع الحكومة الجديدة في سعيها للحصول على قروض، خاصة أن البنك الدولي في تقرير صدر عنه مؤخراً يقدر أن تحقق إثيوبيا بحلول عام 2023م دخلاً سنوياً من تصدير الكهرباء لدول الجوار يبلغ المليار دولار، وبالتالي فإن الجدوى الاقتصادية للمشروع واضحة، خاصة إذا ما تم التوافق مع مصر والسودان، بحيث تتم معالجة الأوضاع التي تثير قلق مصر حول حصتها في مياه النيل.
ولا شك أن مصر أدركت أبعاد هذه التطورات الأخيرة، بعد أن كشف رئيس الوزراء الإثيوبي عن العقبات التي تواجه مشروع سد النهضة، والتي تحتاج لمعالجات عاجلة، ولذلك فإن مصر بادرت بإرسال وفد عالي المستوى بالأمس إلى أديس أبابا، مكون من وزير الخارجية، ورئيس هيئة الأمن القومي، للتباحث حول مخرجات اجتماع اللجنة الثلاثية المشتركة التي انعقدت في مايو الماضي، واتخذت قرارات تهدف للإسراع بحسم القضايا الخلافية، فقد بات الآن لكل الأطراف مصلحة في إنهاء الخلافات بطريقة مرضية للجميع،
ولقد وفّرت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي الأجواء التي تفرض على الجميع القبول بمبدأ التنازلات المتبادلة، بغية الوصول إلى اتفاق تام حول السد، والتعاون المستقبلي في إدارته بطريقة تحفظ حقوق كافة الأطراف، ولا تلحق ضرراً محسوساً بأي طرف،
فهل تغتنم الأطراف هذا الظرف المواتي،
للدخول في مفاوضات جادة ومكثفة،
تعالج كل القضايا الخلافية؟؟