• تتناوش عقلاء السودان أحياناً ارهاصات التيقن بأن دولة الإنقاذ ميكافيلية الهوي والإستراتجية.. فهي حيناً ترفع شعارات إسلامية حتي يكاد الناس يحسبون أن البلاد يتولى شأنها ملائكة، وأن ثمة مشروعاً عالمي الملامح إنساني التوجه يتأسى إيقاع دولة المدينة، وينادي الناس إلى المشروع الحضاري، حتى تنداح السير، وترتفع الحناجر بالخطاب الهتافي والانفعال الحماسي، حتي يكاد الناس يتوقعون أن تنقل الكعبة المشرفة إلى قلب أم درمان، أو أن تلد حواء السودانية خالد بن الوليد ليقود جيوش المجاهدين؛ لترتفع الرايات فوق مشارف المدن العالمية، أو أن ترسل الدول رسلها طلباً لأن تكون تحت مظلة مشروعنا الحضاري.
• ثم الإنقاذ ذاتها حيناً آخر تتبنى حواراتها الانفرادية ردحاً من الزمان، وتحاور كل حزب أو كيان على حدة، فتورث ذاك الحزب التشظي او الانشطار حتى إذا بلغت بالأحزاب مراحل التنازع والتضاد فيكون للاتحاديين أكثر من واجهة، ولحزب الامة عدد من الاجنحة، وكذا حال أحزاب اليسار وحتى القوى الحديثة.. لتنتقل بعد ذلك جرثومة التشظي فتتمكن من الحركات المسلحة التي ارتضت رفع السلاح، وانتهجت الكفاح المسلح بعد أن تيقنت أن الإنقاذ لا تفاوض او تأبه إلا بحملة السلاح وهواة التمرد.
• الإنقاذ نفسها وبعد تمحيص اتجهت إلى الحوار، وتبنت ما ظلت تطالب به المعارضة، فتبنى رئيس الجمهورية المبادرة لدعوة أهل السودان بأحزابهم وقواهم المختلفة بل حتى الحركات المسلحة والمتمردة؛ لتجلس جميعاً في حوار وطني جامع يشخص العلل، ويقترح العلاج، ويمرحل التحول نحو الديمقراطية، وإنهاء كل أوجه الصراعات والنزاعات التي أرهقت الوطن.
الدولة فتحت أبواب السودان علي مصراعيها، بل رفعت الحظر عن المطلوبين جنائياً، وأصدرت مراسيمها بالعفو والسماح للجميع بالمشاركة، حتي حملة السلاح والحركات المتمردة. كما شجعت الاحزاب بالداخل المعارضة والموالية للانخراط في الحوار الوطني .
• وعلي الرغم من أن الحوار الوطني لم يترك شاردة ولا واردة حتى قتلها بحثاً، بدءاً من الهوية حيث اعتمد السودانوية هوية كل أهل السودان، وأسقط الانتماءات القبلية؛ حتي يمنع التمييز، وإذكاء النزاعات ذات الطابع العنصري والقبلي.
وعلي الرغم من أن الحوار قد تبني اتجاهاً قوياً لتعديل الدستور، واعتمد كثيراً من المطالب التي تعد! من رغبات الشعب السوداني وأمنياته إلا أن الإنقاذ تجاهلت روح مخرجات الحوار الوطني، وثمرة توصياته، إذ جاء التشكيل الوزاري الاخير قفزاً فوق المراحل، فهو يعد بكل المقاييس تجاوزاً واضحاً لروح الحوار الوطني، وموجهاته. والدليل علي ما ذهبنا إليه تصريحات أهل الإنقاذ، بل تصريحات السيد رئيس الجمهورية نفسه صاحب فكرة الحوار الوطني، وراعي مخرجاته، والأكثر حرصاً علي تنفيذ ما جاء في الحوار الوطني، فقد صرح الرئيس بالآتي؛-(معظم الوزراء الجدد لم نشاورهم، وبعضهم تفاجأ بسماع اسمه أثناء إعلان تشكيل الحكومة).
• إذن أين روح الحوار الوطني وموجهاته..؟؟
أي أحزاب تلك التي يُختار ممثلوها في التشكيل الوزاري الجديد من دون استشارتهم أو الرجوع إليهم أو حتي إخطارهم، ثم أين الإنقاذ التي تبنت فكرة الحوار ورعته، وأعلنت حرصها علي تنفيذ توصياته ..كيف قبلت الإنقاذ هذا الأسلوب إذا لم تكن راغبة فعلاً في أن يكون الاخراج علي ذاك النحو؟
• هنا فقط تظهر ملامح أخرى للإنقاذ تبدو فيها ميكافيلية الهوي والطموح، إذ تكون الغاية مبرراً لاستخدام أي وسيلة، حتي ولو خالفت العقيدة والمبادئ والشعارات الجذابة، او حتي مخرجات الحوار الوطني الجامع.