سألتني زوجة أخي محمود، محمود أخي الأكبر وهو فوق ذلك أب بحكم الاهتمام والانتماء، سأحكي عنه يوما ما، سألتني أميرة لماذا تنادي (حبوبة) بأمي، تعني أنني كلما ناديتها أناجيها بأمي، أميرة لا تعلم بأن أمي حاضنة النطفة سميرة (دفعتني) إلى أمها ابناً منذ وقت مبكّر، ففاطمة أو فاطنة كما يحلو للجميع مناداتها لا تملك صبيا يصلح لمصارعة المشاوير، فاطنة بذاتها ابنة لزينب طه علي وتلك قصة يجب الرجوع اليها إن أطال الله في عمري، فاطنة ابنة زينب وابنة للنور سالم، امرأة ولدت لتتحدى، وأنجبت لتصيغ مستقبلها بعيداً عن الضياع، زوجوها قبل مواقيت الزواج بأحد أقربائها، تحكي عن الموضوع ببساطة، لم يكن يعلم حينها معنى الزواج، وهي ملهية بأحلام الطفولة وألعابها، ذلك قبل تساب ستة وأربعين الشهير، فاطنة رجعت كالسيدة خديجة لبيت أمها دون أن يمسسها شر او يغتال طفولتها مغتصب، ثم تزوجت في الرابعة عشر، حينها أمها تحكي عن تأخر سن الارتباط وأسف الاختيار ولماذا!!..
تزوجت فاطنة من محمد حامد، كان يكنى ب (هبولة) قيل سبب الكنية أنه لا يقيم وضعاً لمال، ولا لحال، قد يصاحبه الشراب كل الصباحات، وقد يحكي ضياع الفرص دون حسرة مساءً، تزوجته فاطنة وأنجبت منه ثلاث فتيات وصبيان، الأول مات في تدرج الصبا، بكته فاطنة حتى ظنت أن الله عاقبها بصبري،فصبري مصنف كمتلازمة داون، وقبل الخوض في السيرة في ذات التواقيت تظن بل تؤمن فاطنة أن صبري هو بركة كل البيت بل الأسرة الممتدة، المهم في الامر أنها بكت صحيحها ولَم تهمل صبري أبداً،بل على الدوام كانت سائلة عنه باحثة عن راحته معنفة له طمعاً في ضرورة تساويه مع أقرانه، تسأل عن ثوبه، عمامته، من يجب أن تقترن به، وإن فقدت بكرها وسندها فهي ما زالت تحلم بمن يحملون سيرة محمد حامد اسما وجسما وتواريخ تحكى.
اليوم سأحكي عنها:
فاطنة بت النور سالم ابنة زينب طه علي.
لها من الأشقاء واحد، اسمه سايح، ابن ابيها مصطفى، ابنة ابيها حليمة، أبناء أمها سعاد وحسن وحسين، للمفارقة أن حسين ابنها بالرضاعة، فحين ولدته أمه أصابها مرض، حينها فاطنة ولدت نعيمة، وحسين اخوها يحتاج إلى صدر يحتضنه، كانت اخته وأمه بالرضاعة، لم يكن الدين معقداً، ولَم تكن الفتوى حينها متاحة.
فاطنة لها من الأبناء أول ذكر مفقود ونعيمة وسميرة وفتحية وصبري، كانت ابنة كل شيء عدا أن يكون ابناؤها وبناتها ضمن المسغبة.
صنعت كل شيء ليكون الطعام حلالاً، تركت كل شهوة تعنيها مقابل اشتهاء الاستقرار، فزوجها مات والتركة ثقيلة، فاطنة اشتهت العافية للجميع ثم سعت لها.
تزوجت نعيمة من سيد محمود المكنى ب (ظهري) وسميرة من محمد عبد الرحمن عمر المكني ب (حلاق) وفتحية تزوجت رمضان محمد محمود ذلك الانسان الشفاف، وصبري ما زال في أحلامها فارس لم تتوجه حريرة ولا ضريرة.
مات اخوتها، مصطفى ومات سايح، وبقي على البسيطة حسن وحسين. بقيت سعاد حين فقدت حليمة.
فاطنة أمينة حين الأمانة، شفوقة حين الشفقة، موارية حين يجب اخفاء نصف الحقيقة، موازية حين الافتخار.
كنت معها حفيداً وابناً لم تلده، كانت حينها تبيع الناس (التسالي) وان انعدمت التسلية، ثم كانت تغطي حاجة الجميع بسفرها لمصر حاملة (شوال تسالي) لتجلب حلويات وملابس (عمر أفندي)، كانت فاطنة فطنة للاقتصاد وضرورة ان تنجز الحاجة بعيدا عن مد اليد، أشهد الله والجميع انها لم تمد يدها لنسيب او قريب.
زاوجت الأيام بيننا ، حفيد وحبوبة، وخال يعلم الجميع حاجته للرعاية بقدر حاجة الجميع لدعوته الصادقة، كنّا في نفس التواقيت نستنشق نفس الأوكسجين، كانت مبادرة وما زالت، كانت محبة وستظل.
ثم كانت أيقونة المدرسة الابتدائية حين باعتنا الفطور و(التبش) والتسالي، باعتنا قبلهم الاعتزاز بالنفس، حينها فقط كان موازياً لي في المدرسة أن من تطعمني هي أمي أم أمي، مساء تصنع تسالي قليل ملح وكثيرها، ففاطمة تملك كل تواقيت الأمزجة، كان المسلسل جزءاً من النقاش، وكانت الأمنيات بحجم المعاناة، هل تحددون حجم المعاناة؟!
في ذات تواقيت ارتضت فاطنة ان تبيع الملح ليصبح مصدر دخلها، وهل تذكر اخر تواقيت شراء الملح؟!!!!
ارتضت ان تكون بائعة الملح مقابل مساعدتها، لن تقبل مال نسيب او حسيب، هي من تجمع بقايا الخضار لتصنع منه عفة قبل شبع.
يااااا فاطنة، منك تعلمت شرف الانتماء، منك تعلمت أن حلفا تعني وادي حلفا، وبئساً للبائعين، منك علمت أن مذاق الطعام لا ينتمي لمكونه، منك استمرأت القدرة على مجابهة الظروف، هل بائعة الملح تبيع تاريخها؟!!!!!!!!!!!!!!
لا ولن.
أناجيك اليوم وأنا غريب لسان ووطن، أناجيك لتحكي لي قصة المهان ذاك الذي ترك ارضه وغرسه لصالح حيوات يجهلها.
أمد الله في عمرك تعنيفاً لنا وشهقة لصالح الكبرياء ……
آسف إن لم يكن ولَم تكن مواقيتي بحجم حلمك، فحلمك كان وسيظل حلفا، وأنا بعيد عن نيلها ودبروسة، أنا بعيد عن الماضي.
ابنك عمر وحلمك الذي لم يكتمل.
لن أبكي فالبكاء لن يعيد لنا ذكريات لم نصنعها.
دون سؤال أميرة أنت أمي وبائعة الملح حين كان بالإمكان أكثر مما تشتهي.
مجداً لحلفا واديها وجديدها، وشكراً للملح الذي أبدل حياتنا طعماً نستسيغه.
ولدك وحفيدك عمر حلاق.