ليس من السهل الكتابة عن تركيا لتنوع مقدراتها وجذورها الموغلة في عمق التاريخ، ولتشعب قدرات إنسانها كامتداد لحضارته، وتميزه في الاعتناء بمحيط حياته وإنتاجه المثمر المؤدي إلى حياة كريمة، فكل بقعة بها المختلف المبهر، ففي مدينة ” كابادوكيا ” أحد اهم مواقع التراث العالمي تجد الجبال الشاهقة الممتلئة بالكهوف التي تحكي تضاريسها عن رحلة الإنسان الأول وتفاصيل حياته، تطويعه للصخور القاسية والارتفاعات الشاهقة فتقف عند محطات الأزمان وتعاقبها.
وتأتي مدينة “بورصة “حيث غابات الصنوبر التي تحلق بها الكبسولات الزجاجية” التلفريك”، والمعلقة بين السماء والارض بتقنية هندسية غاية في الدقة، ووسط الغابات تنبض حياة تعج بأسواق العسل البرىء والأعشاب والفخاريات.. الخ.
و”انطاليا” غنية بالآثار المجسمة لشخصيات صنعت مجد تلك الأزمان البعيدة، وعلى امتداد تجوالك شرقاً وغرباً من اسطنبول تمر بمدن تتراص بأشكال معمارية ملونة خلابة تعج بالحركة وأنفاس الحياة العصرية .
وقعت في حيرة عما أكتب، فملامحها كورشة عمل ضخمة لا تخفي على العين، وسبل الحياة العصرية لم تطحن وتغتال الماضي، بل هو ضمن دائرة الاقتصاد ببوابة السياحة. زرتها أول مرة قبل سبعة عشر عاماً واليوم من الصعب حزمها بمقال، فتركيا سجلت اسمها ضمن دائرة الدول الكبرى بسياستها الرافضة للركوع والإذلال وباقتصادها المتنوع وصناعاتها الوطنية وسفن تجارتها المبحرة تجد الآليات الثقيلة والسيارات الحديثة والمصنوعات الجلدية والأقمشة والاكسسوارات والهدايا التذكارية والصناعات الغذائية والتكنلوجيا، بل تحول البلد إلى سوق عالمي يغذي بمنتجاته عالية الجودة الأسواق الإقليمية والأوربية، وتستقطب ملايين الزوار من بقاع العالم باختلاف اهتماماتهم وسحناتهم، هي تنطلق كالحصان الذي لا كابح لمساراته التنموية بتطور الفكر النهضوي والتنمية الطموحة المستلهمة من إرثها الثقافي والتاريخي الحضاري.
إنسان تركيا هو سر نجاحها ووهجها؛ لحمله جينات صرامة العمل المنتج، والإيجابية المنفتحة على الآخرين، وهذا هو بيت القصيد.
طوع الحجارة القاسية التي تماثل بنيته الجسمانية وعقله المتقد فأنتجت له اشجاراً مثمرة، ومن صخورها صنع الخزف بجماليات مبتكرة للمصانع والقصور، وكمواعين للمطبخ واكسسوارات للزينة، وشكل النسيج وطرزه ومدد الشوارع والطرقات وظهرت رفاهيته ورقي تعامله حتى بالحيوان ففي اكثر من ميدان بالعاصمة قرى أقامها شباب تطوعاً مصنوعة من الأخشاب الملونة للقطط تحميها من البرد وحرارة الشمس في وقت نجد في عاصمتنا أطفال الشوارع ينامون بالبالوعات، ويجاورون المزابل، ويأكلون من فتاتها .
هذه النهضة المستمرة تشعرك بان خلفها عقولاً وطنية متراصة في سيمفونية منسجمة بدءاً من رجل الشارع، فهم نساءً ورجالاً وصغاراً مهندسو خارطة المدن، والاعتناء بها وبالصناعات الحرفية المحلي، وبما يعظم الموروث الثقافي، فدخول المسجد الأزرق أو ايا صوفيا أو البازار العتيق كفيل بأن يحدث الزوار عن عظمة التاريخ والمحافظة عليه واستثمار عائداته، فالسوق المسقوف من أقدم الأسواق عالمياً عمره أكثر من 550 عاماً، وما زال يقف بعنفوان كأحد المعالم التراثية الناطقة بالحيوية. يقع في محيط 30 هكتار به 4400 دكان و 80 شارعاً و11 باباً، وكل شارع يتميز بحرفة معينة. يضم مراكز للمعلومات بها أكبر خزنة قديمة كانت توضع فيها المجوهرات والأسلحة، ويزوره يومياً ما لا يقل عن 500 ألف زائر لمحلات الذهب والفضة والأقمشة الفاخرة والسجاد.
وعلى الرغم من مروره بكوارث طبيعية كالزلازل والحريق إلا انه استطاع أن ينهض من كبوته مراراً، وهو أكثر جمالاً ولمعاناً، أما السوق المصري “امينونو”، فقد بدأ العمل به في 1597م بمنطقة الفاتح، وهو أكبر وأميز مركز عالمي للتوابل والأعشاب العطرية والطبية النادرة، بجانب المكسرات والحلويات كراحة الحلقوم ” لكوم”، والفواكه المجففة والمعروضة بطريقة فنية كحديقة مزدهرة بأطيب وأفضل أنواع الورود. تأخذك في متعة بصرية مثل اللالىء والمجوهرات في الوقت الذي تسرقك حواسك لرحيق المكان من الأعشاب النفاذة الملهمة لأي طباخ مبتدئ لوضعها على أي من الأكلات، فالمعروض يزاوجها جنباً إلى جنب بما يتوافق مع الاستعمالات المختلفة تطبيباً وعلاجاً أو نكهة للمأكولات، وترطيباً للجسد والشعر.
وبالسوق كثير من الزوايا والمقاهي والمطاعم وقريب من جسر “غلطة ” الملتصق بلسان بحري ممتلئ بمراكب الصيد المتراصة والمزركشة كعروس غجرية في ليلة زفافها، وعلى ” القيف ” مطاعم عبارة عن صاج كبير لشوى أحد أنواع الاسماك الشهية، التي تعد مباشرة أمام الزبون وكاسات مخللات تموج في ماء بنفسجي من البنجر المخلوظ بالجزر والخيار والكرفس.
وعلى الرغم من أن السوق يعج بالسواح والأسر صغارها وكبارها، إلا أنه ربما لا تجد أي بقايا أكل أو أوساخ، فكل المطاعم حريصة على النظافة أولا بأول، بل تقدم مع الوجبات قراطيس من المناديل المعطرة، وهو تقليد يكاد يكون اعتيادياً، ولا توجد ست شاي في العراء وضربة الشمس، فالنساء موجودات بمفاصل الحياة، ومن تمتهن البيع ففي اكشاك جميلة أو بزوايا ومقاهي يصنعن المعجنات، ويغزلن الصوف ويشوين الذرة، وبائعات للاناتيك.. الخ .
الاسواق السياحية والشعبية يؤمها الملايين، وتغلق أبوابها السادسة مساءً، وساعة الصفر تبدأ بإزالة مخلفات اليوم التجاري المزدحم والعامر بصنوف البشر فالعامل الذي يبيعك ما أن يحين موعد الإغلاق إلا ويلملم البقايا والفوارغ بكيس ضخم.
وهذا الفعل يبدو للزبون كأنه مقدس، يسابق في أهميته قبض الليرات التي تنوي وضعها في يديه، فتحترم هذا الالتزام الصارم والأنيق، الذي هو أحد أهم عناوين رقي الإنسان في هذا البلد الملتزم حد الصرامة بالأنظمة والقوانين، والمحافظة على إصحاح البيئة، وما يشجع على ذلك ما يشبه الفرامات المنصوبة في المداخل الريئسة للأسواق لغبر الأوساخ في حاويات تحت الأرض لحين تحميلها، تتم هذه العمليات دون وجود حراس أو شرطة للنظام والنظافة؛ لأنه سلوك برمج عليه الجميع، ولا يحتاج إلى رقيب وحسيب.
المدهش قد لا يصادفك شرطي مرور أو للنظام العام فالكل منسجم ومتناسق ومحترم الانظمة واللوائح، تجدهم فقط أمام المراكز الرسمية والتجمعات كشارع الاستقلال المؤدي إلى ميدان تقسيم الشهير، وهم في حالة استعداد أو تجدهم في عربات جوالة هنا وهناك .
اكبر الفنادق بالمدن السياحية ربما لا يتعدى عدد موظفيها أصابع اليد ونفس المدير الذي تسلم حجوزاتك عبر البريد الالكتروني يكون في استقبالك لحظة الوصول، بل يحمل أغراضك للغرف؛ لتفاجأ به يشذب الحديقة، ولا يتوانى عن صب كاسات الشاي، او يجمع الصحون، وربما تجده بالمطبخ يساعد في إعداد وجبات إفطار النزلاء فالموظفون محدودو العدد يعملون بتوافقية وتبادل للأدوار، وتحرص غالبية الفنادق الأثرية والمملوكة لأسر أن يقدموا خدماتهم للنزلاء، بما يشعرهم بالبيئة الأسرية والضيافة البيتية الحميمة، والمتحدثون بالإنجليزية والعربية في ازدياد مطّرد. قد تجد شاباً لم يغادر العشرين يتحدث أكثر من لغة، وبابتسامة بريئة يخبرك أنه أجاد الصينية او اليابانية التقاطاً من الزوار مختلفي الالسن .
في زيارتنا الاولى باحدى الاسواق الكبري حادثني رجل بالتركية والمح لطفليه فجلساء القرفصاء وعقدا اياديهما الصغيرة في صدورهم وقروا علينا سورة الفاتحة وسط فرحة ابوهم وكل من مر بهذا المشهد البريء ليقول لنا ان اطفاله يتقنون لغة القران الكريم وما ان وقفنا بجوار مقابر اثرية نترحم علي الموتى ونقرأ اسماءهم بالشواهد جلس رجل كبير تصادف وجوده وبكاء بكاءا مر احد المارة اخبرنا انه يقول ( هؤلاء اجدادنا لا نستطيع قرأءة اسمائهم والترحم عليهم في حين هؤلاء اغراب يعرفونهم ويترحمون عليهم ) ..
انها تركيا الماضي والحاضر والمستقبل المستنير والتي لن تكسر فقد حباها الله بطبيعة نادرة غنية وانسانها احد اهم علامات تقدمها اوليس الرئيس اوردغان تركيا حتى النخاع عربي الهوى اسلامي التوجه باصالة وعنفوان استطاع ان يعيد امجاد اسلافه ومزجها بالعصرنة ولاحق بها الانجازات ففي كل بقعة تجد شبكة الانترنت حي ” لا تطش “شبكته وكل الامكنة حتى في الاصقاع تشجع على استغلال “الواي فاي ” المجاني انه العمل الجاد الذي لم يطمس التاريخ التليد ولا افاق المستقبل والذي تستمد منه تركيا اليوم الغذاء والكساء والتجارة الحرة لانها معتدة بالعمل والانتاج وتفويج الملايين باختلاف توجهاتهم وسحناتهم عبر مطاراتها وعبارات السفن والراحلات لتقول لهم مرحبا في بلدكم الثاني الغني حد الاندهاش .
*إعلامية سودانية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر
Awatifderar1@gmail.com