تدور وتحتدم السجالات والحوارات الطويلة حول التنوع والتعدد في السودان، منذ فجر استقلاله. في البدء كان هنالك من لا يعترف بالتعدد والتنوع، وكانت حقيقة التعدد القومي والعرقي والديني والثقافي لا تعني شيئاً كثيراً بالنسبة إلى مجموعات عديدة. ثم صار هنالك من لا يجرؤ على رفضه، وتدرج الأمر إلى أن تم الإعتراف به، ولو لفظياً فقط.
وفي الاتفاقيات المختلفة، وخاصة اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين حكومة البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق، تم تقنين هذا الاعتراف، وإدخاله كمادة أساسية في دستور السودان الانتقالي الذي يحكم البلاد اليوم، الباب الأول، الفصل الأول، المادة 1 ـ 1 حول طبيعة الدولة، والتي تقرأ «جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وهي دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات، وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان». وفي تقديري، فإن هذا البند، والمستمد أساساً من بروتوكولات اتفاقية السلام الشامل، شكل، مع غيره من المواد ذات الصلة، المدخل الأساسي لوقف الحرب الأهلية في جنوب السودان.
وهكذا، فإن ضربة البداية في مشوار حل الأزمة السودانية التي تعصف بالبلاد اليوم، تبدأ بالوعي بأن السودان، بلد متنوع ومتعدد، بالمعنى الواسع للكلمتين، متنوع ومتعدد في مستويات التطور الاجتماعي، وفي الأعراق والإثنيات والقوميات، وفي الديانات والثقافات والتقاليد واللغات.
ومن هنا، فإن التحدي الذي سيظل على الدوام يواجهنا جميعاً إذا ما أردنا التصدي لهذه الأزمة الخانقة في البلاد، وإرساء أسس السلام والعدالة والديمقراطية والتنمية والحفاظ على وحدة البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي، هذا التحدي لا يقف عند الوعي، أو الاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في السودان، بل التقدم لصياغة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تترتب على هذا الاعتراف، وهذا هو ما نعنيه بإدارة التنوع بنجاح. وإضافة إلى ذلك، وفي وضع مساو له، فمن الضروري والمهم جداً في ذات الوقت التشديد وتأكيد أن هذا السطوع القوي للتنوع والتعدد في السودان، لا يجب أن يعمى نظرنا وبصيرتنا عن رؤية عوامل وحدة المجتمع السوداني، والتي تراكمت داخله عبر القرون والحقب.
صحيح أن تعرجات ومنعطفات الواقع السياسي السوداني ومطباته العديدة، تسببت في أن تجعل مهام إعادة بناء الدولة الوطنية السودانية، دولة ما بعد الإستقلال، تختلط في الأولويات والترتيب. كما أن القوى المناط بها تنفيذ هذه المهام، للأسف، تتشتت وتتفكك بدلاً من أن تتجمع وتتوحد. وهي قوى، بحكم طبيعتها وتركيبتها وخلفياتها الآيديولوجية والاجتماعية، متعددة الألوان والأطياف والرؤى. في حين أن المهمة التي أمامها، مهمة إعادة بناء الدولة السودانية، تقتضي التمازج والتشابك، وبالضرورة التنازل، حتى تصل إلى غاياتها في بناء دولة الوطن.
وصحيح، أننا اليوم نعيش الفشل الذريع لدرجة الإحباط المتمكن والمستوطن قطاعات واسعة من أبناء الوطن، يزرفون الدم بدل الدمع من جراء انهيارات الوطن المأساوية في كل المجالات، السياسية والإقتصادية والاجتماعية، ومن جراء الأفق المسدود والظلام الدامس الذي يكتنف المستقبل، ومن جراء المصيبة الأكبر، إذ تتعامل سلطة حكومة الإنقاذ كأن الأمر لا يعنيها، أو هو يعنيها ولكنها تريده هكذا. لكن، الفشل والإحباط، المتمكنين منّا حتى الآن، ليسا قدراً محتوماً أبدياً، بل من الممكن جداً التصدي لهما، إذا تحركنا في كل الاتجاهات، حتى تتقاطع الخطوط، وتنتج ترياقاً مضاداً لهذا الفشل والإحباط، وتنجز فعلاً مقاوماً لعوامل التفرقة والتشتت، ومدخلها في ذلك هو التصدي ضد هوس محاولات بناء الوطن برؤية أحادية تفرض فرضاً على الآخرين.
ومن هنا، فإن الخطوة الأولى والرئيسة، التي تشكل عاملاً أساسياً وحاسماً من عوامل التغيير ونجاح إدارة التنوع، هي الوعي بضرورة مقاومة المشروع الأحادي المتناقض مع مهام تأسيس الوطن القائم على واقع متعدد ومتنوع بكل ما تحمل الكلمتان من معان، ثم تجسيد هذا الوعي في فعل ملموس.
أعتقد، لن نختلف حول أن العصر الذي نعيشه، أفرز أسساً ومداخل نظرية ومفاهيمية جديدة، تشكل في مجموعها، تحولاً أو نموذجاً معرفياً جديداً، سيكون الأساس الذي ترتكز وتعتمد عليه ثورة التغيير، بما في ذلك إدارة التنوع، وتستمد منه أسباب نجاحها. فالسمة الأساسية لعصرنا الراهن هي التطور المذهل في المعرفة وفي اكتشاف الفضاءات الجديدة، حيث تتسارع، بصورة غير مسبوقة، وتيرة التراكم العلمي والمعرفي، ووتيرة تطور الثورة التكنولوجية، ولا يمكننا تخيل حدود هذا التطور المذهل، أو سقفه الأعلى، لأنهما، ببساطة، غير موجودين. والمؤشرات الدالة على ذلك كثيرة، منها، على سبيل المثال، أن المنشور على الإنترنت في عام 2009 وحده، أكثر مما نشرته البشرية بالطرق التقليدية في آخر5000 عام..! وأن ما قدمه تلسكوب هابل الفضائي في أول عام بعد إطلاقه في التسعينيات يفوق معارفنا الفلكية التي توصلنا إليها في آخر 10 آلاف عام، وأن المعلومات التقنية تتضاعف كل عامين، مما يعني أن المعلومات التي يدرسها الطالب الجامعي في سنته الأولى تصبح (قديمة) حين يصل إلى سنته الثالثة…، إلى غير ذلك من مدهشات العصر!!. وأعتقد، أن هذا الواقع المدهش، فتح الباب على مصراعيه لتخلق وتشكل نموذجاً معرفياً جديداً، أو «بارادايم شفت»، قائم على ذاك التراكم العلمي والمعرفي، ونتائج الثورة التكنولوجية الرقمية، وعلى الخبرة والتجارب الإنسانية، إضافة إلى الانخراط المباشر في سلسلة من الأنشطة العلمية، عبر المؤهلين المتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة.
وأعتقد أيضاً، من السهولة تصور أن هذا النموذج المعرفي، سيحدث نقلة نوعية في تطور الوعي البشري ضد الحلقية الضيقة وضد التعصب والجمود الآيديولوجي، مما يمكن من اختراق جدران التخندق الإثني والتعصب العقائدي والتمترس الآيديولوجي. وهو اختراق ضروري جداً لإنجاح عملية إدارة التنوع، لأنه يعبد الطريق أمام التوافق على المشروع الوطني لبناء الدولة الحداثية. فالدول لا تبنى بالآيديولوجيات أو العقائد، مثلما لا تتأسس وفق قاعدة الأغلبية والأقلية.
٭ نقلا عن القدس العربي