يمر التعليم ومناهجه في السودان بأزمة حقيقية، يحس بها، العاملون في حقل التعليم، الطلاب، والأسر، وغيرهم… وقد تجسدت هذه الأزمة في القلق الذي تعيشه جموع الطلاب، في مظاهر ((الرفض)) الكثيرة التي دفعت بعدد كبير منهم الى قطع دراستهم نتيجة لخيبة أملهم في أساليب التعليم، ومناهجه، ومقرراته، ولعل سبب هذه الأزمة الرئيسي هو عدم التخطيط السليم لمناهج التعليم، ولعل من أسبابها الانفجار الكبير الذي حدث في مجال العلم، والمعرفة. ولا شك أن هنالك الكثير من الدراسات والأفكار المطروحة في ما يخص أمر التربية والتعليم وإعداد المناهج..
كتب أعظم المفكرين السودانيين في تبيين أغراض التربية والتعليم يقول: ((فإن غرض التعليم إكساب الفرد الخبرة المهنية التي تجعله مفيدا للمجتمع في الميدان الذي خلق وهو مستعد له بما ركز في فطرته من موهبة.. وهو ضروري ليسلح الأفراد بالقدرات العلمية، والفنية، والادارية، والتكنولوجية، لتنمية حضارة مجتمعهم، وللتسامي بها في مراقي الكفاءة والكفاية. وفي التعليم يقع التخصص، ويقع التمييز، ويسود الاتجاه إلى التخطيط لإنجاب حاجة المجتمع – فيه يقع التمييز بين الرجال، والنساء، ويقع التمييز بين الرجال، والرجال أيضا، ذلك بأنه إنما يرمي إلى تنمية، وتغذية الموهبة عند كل موهوب، حتى يخدم مجتمعه في الميدان الذي خلق وهو مستعد له استعدادا فطريا، بيد أن هذا التمييز الذي يقع في ميادين الاعداد لخدمة المجتمع المدنية لا يحمل معه أي امتياز اجتماعي ترتفع به، تلقائيا، مكانة فرد فوق فرد آخر)).
وتحدث عن أن غرض التربية، هو تحرير المواهب الطبيعية: العقل، والقلب، من أسر الأوهام، والأباطيل.. فبسلامة القلب من الخوف، وصفاء الفكر من الأوهام، تتحقق حياة الفكر، وحياة الشعور، وهي غاية كل حي.. وهي مهمة التربية.. وللتربية وظائف كثيرة هي في جملتها نقل الانسان من الاستيحاش إلى الاستئناس، حيث تصبح عاداته جميعها إنسانية، ومهذبة.. وحيث يحاول، بجهد الطاقة، أن يترك كل شيء على صورة أحسن من التي وجده عليها.. والتربية، بخلاف التعليم، لا يقع فيها التخصص، ولا التمييز بين الرجال والنساء، وانما هي حق أساسي لكل فرد بشرى، وهي تشمل حتى الأطفال، ولا تُحد الا بطاقاتهم على التلقي، والادراك، والتنفيذ.. والقاعدة الذهبية في التربية هي أن تضع الأفراد أمام المسئولية وأن تعينهم، بكل الوسائل، على تحمل المسئولية، ذلك بأن غرض التربية هو إنجاب الأفراد الناضجين.. وملخص غايات التعليم بتمثل في تحرير المواهب الطبيعية عند كل الرجال وكل النساء، واكساب كل فرد من رجل أو امرأة المهارة الفنية والعلمية التي تجعل حياته نافعة له ولمجتمعه..
ولا بد أن الجميع يدرك ما نعانيه من أزمة في مناهجنا.. والتي يرجع السبب فيها الى التغيير الكبير الذي طرأ على الحياة المعاصرة، نتيجة للتقدّم العلمي، والتقدّم التكنولوجي، اللذين أديا إلى تغيير كبير في المفاهيم، وفي طبيعة مشاكل الحياة، مما أدى إلى ضرورة إعادة النظر في التعليم، وفي التربية، على ضوء الظروف الجديدة.. وأما المنهج التقليدي، الذي يقوم على الاهتمام بالناحية العقلية فقط عند التلاميذ، ويركّز على حشو أدمغة التلاميذ، بأكبر طائفة ممكنة من المعلومات، هذا المفهوم قد تخطاه تطوّر الحياة، وتشعّب المعارف.
فقد أصبحت المعرفة، في فروع العلوم المختلفة، متجدّدة، ونامية، بصورة لا يمكن معها للفرد متابعة ما يَجِدُّ من اكتشافات في شتى فروع المعرفة.. فعلى ضوء هذا الواقع الجديد، أصبح قيام المناهج على حشو أدمغة الطلبة بالمعلومات – التي غالبا ما تتخطاها الحياة، قبل تخرّجهم – أمرا قاصرا، أشد القصور، بل أنه يعوق قضية التربية والتعليم، أكثر من أنه يخدمها.. خلاصة ذلك تقود الى حتمية جعل هدف التعليم الرسمي في المدارس، هو اكتشاف المواهب الطبيعية عند كل فرد، وصقلها، وتنميتها، بالصورة التي تخدم مصالح الفرد، ومصالح الجماعة.. كما يجب أن يجعل التعليمُ المتعلمَ كلفاً بمواصلةِ تعليمِ نفسه، ويعطيه الأسلوب، والمقدرة، على مواصلة هذا التعليم طوال حياته.
وهذا ما يجب أن تعمل على تحقيقه المناهج.. ولكن المناهج عندنا، وبكل أسف، لا تزال تقوم على المفهوم التقليدي للمناهج، حيث الغاية هي حشو أدمغة الطلاب بالمعلومات.. وهي، على كل حال، معلومات غير ثابتة، وفي كثير من الحالات خاطئة، ثم أن الطلاب لا يحفظونها الاّ ريثما، يجتازون الامتحانات ثم سرعان ما ينسونها. وبما أن علماء التربية المحدثون يرون أن المنهج، بمفهومه الحديث، هو: (مجموع الخبرات التربوية – الثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية – التي تهيؤها المدرسة لتلاميذها داخل المدرسة وخارجها بقصد مساعدتهم على النمو الشامل في جميع النواحي وتعديل سلوكهم طبقا لأهدافها التربوية.. كما يرون أن الأهداف التربوية التي أساسها بناء المنهج، والتي يسعى المنهج الى تحقيقها، يجب أن يراعى عند تحديدها: أن تكون شاملة لجميع نواحي شخصية التلميذ، ومناسب لمستواه، وان تكون مراعية لصالح الفرد والجماعة، ومرتكزة على فلسفة تعليم سليمة، وخالية من التناقض.. وتحديد الأهداف التربوية، يتم على مستويات متعدّدة.. فالدولة تحدّد الأهداف بصورة عامة، والوزارة المختصة تحدد أهداف تربوية عامة لكل مرحلة من مراحل التعليم، ولكل مجال من مجالات الدراسة، ثم تتسلسل الأهداف، الى أن تصل الى الأهداف الخاصة بكل درس.. وعلى المدرسة أن تترجم هذه الأهداف الى مواقف تعليمية. وأكبر الأخطاء في مناهجنا هو غياب فلسفة التعليم التي على ضوئها يتم تحديد الأهداف والغايات السليمة، بصورة جلية.. ثم هنالك التركيز الشديد على النواحي النظرية، والإهمال شبه التام للجانب العملي.. كما أن مناهج التعليم عندنا ليست مرتبطة بخطط التنمية، بالصورة التي تجعل التعليم مجال استثمار وانتاج حقيقي.. ان المدارس يجب أن تكون وحدات إنتاج، توظف امكاناتها البشرية والعلمية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي في المدن والقرى، في مجالات مثل الخضروات والفواكه، تربية الحيوان والدواجن، والصناعات الخفيفة والشعبية على أن يتم ذلك، في إطار المناهج، وفي إطار النشاط المدرسي الرسمي.. وهذا بالطبع غائب تماما عن المناهج عندنا منذ زمن وحتى الآن، هذا مع ان المدارس يمكن ان تكون هي الإساس لهذا العمل الإنتاجي، بحكم انتشارها في المدن والقرى، وبحكم الكثرة العددية للتلاميذ بها، وطول فترة الدراسة. ويظهر الإهمال للنشاط العملي والإنتاجي، في المناهج، حيث أصبحت طاقة التلاميذ مهدرة بكثرة المواد النظرية، وكثرة المعلومات التي تحشى بها أدمغتهم، وهي معلومات لا قيمة لها، ولا صلة لها بالحياة العملية.. ولقد كان في امكانية طالب العلم، فيما غبر من القرون، أن يستوعب كل المعارف البشرية في عصره، وذلك بأخذها على يد أساتذة زمانه.. أما اليوم فان الانفجار الذي تحدثنا عنه قد جعل هذه المسألة في حكم المستحيل.. وهي، على أي حال، ليست بمطلوبة.. فإن حشو أدمغة الطلبة بطائفة مختارة من المعلومات المتنوعة والكثيرة، والتي يجلس أحدهم ليجوز الامتحان فيها ليواصل سيره في المراحل المختلفة طريقة فاشلة، وفى الحقيقة مضرة؛ لأن المواد النظرية، والمعلومات المفصّلة، التي تدرس لا يستفيد منها التلميذ في حياته، بل إن الكثير من هذه المعلومات غير ثابت، بل أكثر من ذلك نجد أن بعض المعلومات خاطئ.. مثالا على ذلك الاتجاه الى تعليم الدين عن طريق تلقين المعلومات النظرية، اتجاه خاطئ، فالعلم في الإسلام إنما يقوم على العمل، لا على التحصيل النظري للمعلومات.
أمر آخر ذو أهمية بالغة يجب التنبه إليه وهو إن بلادنا، بلاد واسعة، ذات بيئات طبيعية واجتماعية متباينة، وهذا يقتضي أن تراعى هذه الاختلافات البيئية عند وضع المناهج، ولا يمكن أن يتم ذلك الاّ إذا كانت المناهج لا مركزية، بالصورة التي تجعل كل منطقة تضع المناهج التي تتناسب معها، على ضوء فلسفة التعليم الموحدة لكل البلاد.. فمناهج التعليم واحدة لجميع اقاليم السودان، وهذا خطأ شنيع.. فمن المستحيل وضع منهج واحد يناسب جميع البيئات في السودان على تباينها.. ومخاطبة الطفل في البيئة المعينة، تقتضي الإلمام بظروف تلك البيئة الطبيعية والاجتماعية، بالصورة التي تعين على اختيار الأمثلة، والنماذج، ذات الصلة بالبيئة.
ومن أكبر عيوب المناهج عندنا أنها غير ثابتة، فعدم وجود فلسفة تعليم ثابتة، أدى الى التغيير المستمر في المناهج، لأسباب سياسية وإدارية.. وهنالك التغييرات التي تتم في المناهج نتيجة لتغيير الوزراء.. فكلما جاء وزير جديد للتعليم، أحدث بعض التغييرات في المناهج، ليأتي خلفه ويقوم هو الآخر بإجراء تغييرات أخرى.. وهنالك التغييرات التي يقوم بها الإداريون والفنيون.. وقد تقتضي التغييرات في المناهج، إلغاء كتب بأكملها، ووضع كتب جديدة يتم وضعها في عجلة، ولا تخضع للتجربة الكافية قبل تطبيقها. إن كنا نخطط لمناهج مفيدة فلا بد من أن تكون على فلسفة تعليم شاملة، وثابتة، ترمي الى توظيف التعليم في تحقيق مصلحة الفرد، ومصلحة الجماعة، في آن معا.. للفرد، تسعى الى تنمية مواهبه الطبيعية، العقل والقلب.. واكسابه الخبرة الفنية التي تجعله مفيدا للمجتمع في الميدان الذي خلق وهو مستعد له، بما ركز في فطرته من موهبة.. ولا بد من أن يتم وضع المناهج على أساس أن التعليم مهني، وفي جميع المراحل، ومرتبط ارتباطا وثيقا بالبيئة، وله أهداف محددة، اشد التحديد، من حيث اعداد الفنيين الذين تحتاجهم البلاد في الفترة الزمنية المعينة. وربط التعليم بالبيئة، يقتضي أن تكون المناهج لا مركزية، خصوصا في المرحلة الاساسية، فهي يجب أن تختلف من منطقة الى منطقة حسب اختلاف البيئات، وان كانت تلتقي في الأهداف العامة. ويجب أن تكون مناهج التعليم مرتبطة بخطط التنمية ارتباطا وثيقا. ولا بد من أن تكون أهداف المنهج لكل مرحلة تعليمية، وكل مادة، وكل درس، محددة بصورة كافية. ويجب أن يتم وضع المناهج بالصورة التي تجعل المدارس وحدات انتاج حقيقية، خصوصا في مجالات: الزراعة، تربية الحيوان، تربية الدواجن، الصناعات الخفيفة والصناعات الشعبية.. ويجب أن تراعي المناهج مراحل النمو عند الأطفال، فيتم وضعها حسب استعدادهم وقدراتهم، وبالأسلوب الذي يناسب كل مرحلة من مراحل النمو. ويجب الا يكون للتربية مواضيع منفصلة في المنهج، وانما تكون هي الروح التي تتلبس كل المواضيع، ويكون العمل فيها اساسا بالقدوة والنموذج. ولا بد من ابعاد جميع المواد النظرية، التي تحشى بها أدمغة الطلبة الآن من المناهج.. ويمكن تدريس ما يعتبر ضروريا منها في حصص قليلة تخصص للثقافة العامة. ويجب أن يتم وضع المناهج بالصورة التي تعين الفرد على تعليم نفسه، وتجعله كلفا بمواصلة هذا التعليم طوال حياته.
ان صورة المناهج التي يتم عليها التعليم الآن في مدارسنا لا تجعل من التعليم عملاً مثمراً، وإنما تجعله وسيلة لإهدار المواهب، وتعطيل الطاقات، وصرف الأموال الطائلة لتربية النشء على الخمول وكراهية العمل، الأمر الذي يضر بحياة الأطفال، ومستقبل الأمة.