طلبت الحكومة عدم اتهام المسؤولين بفساد الذمة المالية دون تقديم الدليل، بمعنى آخر أن المواطن الذي يوجه الاتهام يقع عليه عبء القيام بدور أجهزة الدولة المختلفة التي يفترض أنها مسؤولة أو كانت مسؤولة عن رقابة وتنظيم التصرف المال العام مثل المراجع العام والنيابة والشرطة وكافة الأجهزة الرقابة التي تراقب وتدير الإنفاق الحكومي، مثل: إدارة المشتريات الحكومية في وزارة المالية، ومصلحة النقل الميكانيكي ووزارة الأشغال.
لا يكفي أن يصبح الثراء وآثار النعمة المفاجئة على المسؤول وأهل بيته واأاربه وتطاوله في البنيان الذي لم يرثه من والديه، لا يكفي أن يكون ذلك سبباً للشك في ذمة المسؤول، ولا يكفي في الوقت نفسه ليدفع الجهات المعنية للتحقق من مصدر أو مصادر الثراء المفاجيء والنعمة المستحدثة.
ولأن الحديث يحلو دائماً عن سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، بصفته نموذج الحكم الراشد الناجح الذي لم تتكرر تجربته رغم أن بعضهم يدعي صدقاً أو كذباً استنساخ التجربة العظيمة، فقد كان رضي الله عنه يحاسب ولاته إذا بدت عليهم آثار نعمة ملحوظة.
ابتكر للعالم نظام«من أين لك هذا؟»، حيث يدون كل وال أو عامل قبل تكليفه بالمسؤولية قائمة بأمواله وأموال أهل بيته؛ حتى تبرأ الذمة وتزال الشبهة وينكشف الثراء المفاجيء.
كان يمنع الجمع بين الولاية والتجارة ويصادر من أموال ولاته ما تاجروا به، و يترك لهم رواتبهم فقط حتى لا تكون تجارتهم استغلالاً لمناصبهم. قدم الشك و الاتهام حتى تستقيم الأمور، ويسلم المال العام من التعدي و النهب باسم روح الأخوة و إحسان الظن وسلامة الصدر، حتى مع أعيان الصحابة الكرام و قادة الجهاد و الفتح كان هذا نهجه و محاسبته.
كان يحاسب الولاة إذا زادت ثروتهم زيادة كبيرة خوفاً من استغلالهم لنفوذهم في تنمية الثروة حتى لو لم يقصدوا ذلك، وكان يحاسبهم للهدايا التي يحصلون عليها من الناس دون اتهاماتهم بالخيانة، وكان يراقبهم ويرفض الهدايا منهم. غضب رضي الله عنه على والي أذربيجان عتبة بن فرقد، لأنه أهداه خبيصاً (نوع من الحلوى) فكتب إليه عمر: إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والنعم.
كان يقبل شكاوى الرعية ضد الولاة،وهذا هو الأهم، ويتحقق هو منها دون أن يطلب من الشاكي تقديم الدليل، فالتحقق وتقديم الأدلة على اتهام من يشغل المنصب العام ليس مهمة الشاكي، ولم يسلم من الشكوى سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه والي الكوفة من أهلها حينما قالوا لأمير المؤمنين إن سعداً اتخذ قصراً وجعل له باباً يحجبه عن الناس، فأرسل عمر محمد بن مسلمة الأنصاري وأمره أن يحرق الباب ففعل، وعاد برسالة من سعد توضح حقيقة الأمر، فقبل عمر قول سعد وصدقه، وتجددت الشكوى بأن سعداً لا يحسن الصلاة! ولما تحرى عمر حقيقة الموقف وجد الناس يثنون عليه خيراً، إلا رجلا عبسياً، قال: لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية، ولا يغزو بالسرية، ولم يقتنع عمر بهذه الشكاوى، لكنه أدرك أن ثمة شك يحيط بواليه فعزله معلناً استمرار ثقته به: «إني لم أعزله لعجز ولا خيانة».
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفداً زاره من أهل حمص عن واليهم عبد الله بن قرط، فقالوا: خير أمير.. يا أمير المؤمنين، لولا أنه قد بنى لنفسه داراً فارهة… ويردد عمر: داراً فارهة.. يتشامخ بها على الناس!! بخ بخ لابن قرط، ثم يوفد إليه رسولاً يقول له: ابدأ بالدار فأحرق بابها.. ثم ائت به إلي. ويسافر الرسول إلى حمص، ويعود بواليها فيمتنع الخليفة عمر عن لقائه حتى اليوم الرابع، ثم يستقبله في ‘الحرة’ حيث تعيش إبل الصدقة وأغنامها.ولا يكاد الرجل يقبل، حتى يأمره عمر أن يخلع حلته، ويلبس مكانها لباس الرعاة ويقول له: ‘هذا خير مما كان يلبس أبوك’، ثم يناوله عصا، ويقول له: ‘وهذه خير من العصا التي كان أبوك يهش بها على غنمه’، ثم يشير بيده إلى الإبل ويقول له: ‘اتبعها وارعها يا عبد الله’.
مبدأ “من أين لك هذا” القديم الجديد، لو عاد للحياة من جديد، سيضع كثيراً من البنايات المتطاولة في موضع الشك والاتهام، وسيغني الجميع عن مشقة ومتاهة البحث عن دليل الثراء الحرام.
khamma46@yahoo.com