مقدمة:
أكبر التحديات التي تواجه مجتمعاتنا تحدي التعامل مع الوافد من التراث وتحدي التعامل مع العصر.
مجتمعاتنا اليوم غالباً ما تعاني من حقيقة أننا نعيش في الماضي ولسنا منه، وأننا نعيش في العصر ولسنا منه؛ ويشدنا الماضي إلى وفاء لا مستقبل له، ويشدنا العصر إلى مستقبل لا وفاء له.
وبالإضافة لذلك فإن ظروف الكيانات السياسية في هذا العصر لا يمكن أن تحقق الاستقرار فيها إلا إذا توافرت لها شروط معينة. هذا طبعاً لا يمنع استقرار القبور الذي تقيمه نظم متخندقة تحرس نظامها بالبطش، استقرار هو عبارة عن احتلال داخلي لشعب مقهور.
ولكي نقيم وضعاً فيه وفاء له مستقبل، وقادر على توفير الشروط اللازمة للاستقرار في هذا العصر، يلزمنا أن نشخص الحالة، ونضع مجتمعاتنا على طاولة التأسيس، لنرسم الخريطة المطلوبة.
يلزمنا أن ندرك ونواجه عشرة تحديات لا استقرار إلا استقرار القبور بغيرها وهي:
أولاً: التحدي الفكري
أبدأ بالإشارة للتحدي الفكري الذي تواجهه مجتعاتنا. لدى كثيرين الدارونية القائلة بالنشوء والارتقاء تشكل بديلاً لقصة الخلق القرآنية؛ والهيئة الفلكية العلمية القائلة بكروية الأرض ودورانها حول الشمس، وأن ما فوقنا هو فضاء وليس سقفاً؛ ومقولة (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) تتعارض مع حكم قطعي من العلم. هذه الحيثيات غذت فكراً علمانياً اشتقاقاً على غير قياس من العالم أي أن الحقيقة هي ما في هذا العالم الزماني المكاني لا على ما سواه.
هذه الرؤى معناها أن حقائق العلم تبطل حقائق الوحي، وهذا معناه أن تعلمنا للعلوم الحديثة سيهدم عقائدنا. والعقيدة هي ركيزة الأخلاق، والقيم الاجتماعية، والأسرة.
فما العمل؟
كثير من مفكرينا اتخذوا مواقف محددة تقول بمفاهيم جديدة أهمها:
مقولة محمد عابد الجابري وهي ضرورة إحداث قطيعة معرفية (ابستمولوجية) مع التراث.
ومقولة برهان غليون: إخضاع الإسلام لمقاييس علمانية.
ومقولة محمد أركون: أن الأديان كلها ذات مصدر واحد هو الفطرة الأسطورية في الإنسان ما يوجب عقلنة هذه المعتقدات.
ومقولة محمود محمد طه: الرسالة الثانية للإسلام وفحواها أن القرآن المكي ناسخ للقرآن المدني.
ومقولة نصر حامد أبو زيد: تاريخية النصوص النقلية.
الفكر الأوربي واجه إشكالات مماثلة، فكانت مدرسة الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت Auguste Comte: أن الإنسانية تمر بمراحل تبدأ بعقائد سحرية. ثم عقائد دينية، ثم يحل العلم محل كل شيء. هذه الرؤية تبناها نجيب محفظوظ في كتاب “أولاد حارتنا”.
في كتابي “أيها الجيل” تطرقت لهذه الرؤى ووصلت للنتائج الآتية:
العلم صحيح في كل مجال يدركه العقل. والوجود الطبيعي هو كتاب الله المنشور. كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ).
ولكن في الوجود موجودات لا يدركها العقل هي التي يبينها التنزيل أي كتاب الله المقروء. (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ).
الدارونية تفسر تعدد الأنواع، والصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح، وظهور المخلوقات على فترات متعاقبة من الأبسط للأعقد. ولكنها لا تفسر كيف بدأ الخلق؟ ولا كيف بدأت الحياة؟ ولا كيف دخل الإنسان الحياة؟ ولا تفسر أن في الوجود غائية قاصدة.
بالنسبة للهيئة فآيات الكتاب فيها (آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ) ففي النصوص معان تطابق علم الهيئة كقوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا) إشارة لغير الأرض البسيطة وغيرها.
أما النص الذي يتعارض مع حقيقة علمية قطعية كقوله: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قال الرازي إن تأويل ذلك يكون بحسب رأي العين.
مؤسسو المدرسة العلمانية التي تقول إن الحقائق هي حقائق العلم لا غير، قالوا ينبغي الاعتراف بأن في الحياة حقائق تتجاوز مدركات العقل هكذا قال تشارلس تيلور وبيتر بيرقر وغيرهما.
ينبغي الاعتراف بأن للعلم مجال يختص بمدركات العقل والتجربة الإنسانية. وأن ثمة واقع هو فوق مدركات العقل.
إن أعظم فلاسفة الغرب عمانويل كانط كتب كتابه عن “نقد العقل النظري”، مرافعة علمية عن الحقائق التي يدركها العقل الإنساني. وفي كتابه الثاني عن “نقد العقل العملي” تطرق للحقائق في الواقع التي هي فوق مدركات العقل ولكنها موجودة بدليل آثارها في الحياة.
الموقف الجهول الذي يشجب القائلين بالهيئة العلمية عن الفضاء، ويكفر القائلين بوصول الإنسان إلى القمر، لا يدافع عن الدين بل يدافع عن جهله.
والموقف العلمانوي الذي يبطل كل ما لا يدركه العقل لا يدافع عن العلم بل يدافع عن الجهل.
مجتمعاتنا لا يمكن أن تستقر فكرياً، وهي في الماضي وليست منه، وهي في العصر الحديث وليست منه، مفصومة بين وفاء لا مستقبل له وبين مستقبل لا وفاء له، وفي الحالين فإن أثر هذا على المجتمعات مدمر لأن في النقل حقائق لا غنى عنها، وفي مطالب العقل حقائق لا غنى عنها كذلك. مجتمعاتنا لا تستقيم فكرياً إلا في معادلة توفق بين حقائق النقل وحقائق العقل.
ثانياً: التحدي السياسي:
واقع مجتمعاتنا اليوم يعيش في نظام الدولة الوطنية. ولكن هنالك مدارس متبوعة تعتقد أن الدولة الوطنية بدعة ينبغي هدمها لإقامة نظام الخلافة. في الماضي لم تكن الخلافة واحدة إلا في أول 150 سنة من التاريخ الإسلامي. بعد ذلك صار للمسلمين أكثر من كيان سياسي سلطاني واحد.
لا يوجد في النصوص تفاصيل لولاية الأمر بل مبادئ عامة. ولكن الخليفة الأول أبا بكر (رضي الله عنه) فصل أحكام ولاية الأمر: “وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ (ولاية بشرية لا إلهية) وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُونِي (المساءلة) الصِّدْقُ أَمَانَةٌ، وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ (الشفافية) والضَّعيف فيكم قَوِيٌّ عندي حتى أرجِّع عَلَيْهِ حقَّه إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْقَوِيُّ فِيكُمْ ضعيف عندي حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (سيادة حكم القانون)”.
ولكن الدول التي حكمت المسلمين باسم الولاية لم تلتزم بالمبادي التي ذكرها أبو بكر لدى بيعته. بل كانت تقوم على قاعدة المغالبة كما قال ابن حجر العسقلاني: أجمع الفقهاء على ولاية المتغلب والقتال معه. إنها خلافة رفعت شعار الإسلام ولكن هياكل الحكم فيها كانت مقتبسة من الكسروية والقيصرية.
لا توجد نصوص قطعية تلزم بالخلافة لأهل السنة ولا بالإمامة المعصومة المتوارث عليها للشيعة.
قال ابن القيم إن على الفقيه أن يعرف الواجب اجتهاداً ويحيط بالواقع ويزاوج بينهما. الواجب في ولاية الأمر كفالة المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون. وعلى هذه الولاية أن تكفل للناس حقوق مواطنة متساوية على نحو ما كان في صحيفة المدينة.
الخلافة التاريخية في 90% من عهدها كانت ملكاً عضوضاً بمعنى إذا خالفته عضك. والتطلع لخلافة واحدة لـ 55 دولة للمسلمين، مع وجود ثلث المسلمين في بلدان هم فيها أقليات وطنية، تطلع مستحيل.
لذلك ينبغي التأصيل للدولة الوطنية المدنية الحديثة التي تلتزم المشاركة والمساءلة والشفافية وسيادة حكم القانون، وتكفل حقوق الإنسان التي تطابق في أمرها النقل والعقل: أن توفر للناس الكرامة والعدالة والحرية والمساواة والسلام.
هذه الدولة الوطنية يرجى أن تكون خالية من التعصب، منفتحة لتعاهد واسع على أساس قومي ولتعاهد أوسع على أساس إسلامي.
المطلوب بإلحاح تأصيل الدولة الوطنية المدنية الحديثة، وتأسيس التطلع الوحدوي الإسلامي على أساس تعاهدي.
ما لم نفعل ذلك فإن كيان الدولة الوطنية الموصوم بالبدعة المارقة، والمتعارض مع نظام الخلافة، يصير هدفاً للغلاة والقائلين بالحاكمية لله بينما الإمرة للناس. هؤلاء الغلاة سوف يتطلعون للخلافة على النمط التاريخي مقدسين تلك التجربة ومدنسين تجربة الدولة الوطنية ومنادين بالجهاد للإطاحة بها.
هكذا يدعون أن دعوتهم إنما تبعث التاريخ الإسلامي بين أهل الإيمان والجاهلية.
شعار آخر حبيب للقلوب هو تطبيق الشريعة. الأحكام الموروثة من أئمة الاجتهاد استنبط أصحابها الأحكام بموجب منطق صوري هو القياس والاجماع. ومع ذلك هي متأثرة بظروفهم المكانية والزمانية، وهم مجمعون على تغير الفتيا مع الظروف الزمان والمكان والحال. وبيننا وبين استنباط تلك الأحكام ما يزيد على ألف عام، وقد تغير الزمان والمكان والحال، ما يوجب اجتهاداً جديداً يتجاوز المنطق الصوري، ويستخدم المنطق المقاصدي.هذا كله معناه أن القول بتطبيق الشريعة ينبغي أن يسبقه اجتهاد جديد يراعي ظروف المجتمعات الحديثة. ويرجى أن يؤدي هذا الاجتهاد إلى دليل حديث لتطبيق الشريعة، والالتزام بأية أحكام ينبغي أن تقننها هيئة تشريعية منتخبة انتخاباً حراً.
لا يجوز لأية جماعة أن تدعي التحدث باسم الله، فولاية الأمر بشرية، وينبغي تجنب إقامتها على أساس القهر الانقلابي أو السلطاني، فالانقلابات العسكرية لتطبيق برامج معينة تنتهي إلى جعل ولاية الأمر هي الهدف، وكل الذين دخلوا في مؤامرات عسكرية لتحقيق برامجهم انتهى بهم المقام إلى إنفراد الذين قاموا بالانقلاب بالسلطة:
وَمَن يَجعَلِ الضِرغامَ بازاً لِصَيدِهِتَصَيَّدَهُ الضِرغامُ فيما تَصَيَّدا
التقصير في تأصيل الدولة الوطنية يجعلها هدفاً لدعاة الحاكمية لله والخلافة، ويمنحهم حجة قوية لتجنيد الموالين على حساب استقرار الأوطان.
ثالثاً: المسألة الاقصادية:
الاقتصاد علم اجتماعي، لذلك الحديث عن اقتصاد إسلامي لا مكان له. لكن هنالك مبادئ اقتصادية إسلامية كالتعمير، والاستثمار، والتكافل، وتحريم الاستغلال، وغيرها من المبادئ.
أوضاعنا الاقتصادية الآن تعاني من تخلف تنموي، واستقطاب طبقي حاد، ونسبة عالية من الفقر، ونسبة عالية من العطالة ودرجة عالية من الغلاء. كل المؤشرات الاقتصادية الآن في أكثر بلداننا سالبة. لا يمكن لنظام سياسي أن يستقر كما قال عمر رضى الله عنه: ولينا على الناس لنسد جوعتهم ونستر عورتهم ونوفر لهم حرفتهم فإن عجزنا عن ذلك اعتزلناهم.
الحقيقة أن بناء البنية التحتية، وكفالة ضرورات المعيشة، وكفالة الخدمات الاجتماعية، وإقامة أجهزة الأمن والدفاع شروط واجبة لكل دولة لتحقيق استقرار حقيقي ليس قائماً على القهر بل على رضا الشعب.
التكامل الاجتماعي داخل كل وطن واجب، كذلك ما بين الأوطان ينبغي إتباع نهج مارشالي تنموي.
وينبغي أن يحقق الأنموذج التنموي تبادل المنافع التنموية والتجارية مع الآخر الدولي، مبرأ من الاستغلال.
هنالك حاجة لأنموذج تنموي يدرك قوانين الاقتصاد العلمية، ويهدف لمقاصد الإسلام الاقتصادية.
إن التخلف عن هذا الواجب يجعل الفقر، والعطالة، والتفاوت الاجتماعي، والاستغلال الخارجي من أهم عوامل عدم الاستقرار ويفتح المجال للحركات الثورية. صحيح ثورات الربيع العربي لأسباب معلومة انتكست وفي أكثر الحالات عصفت بها ثورة مضادة.
ولكن غياب الأنموذج التنموي المجدي يجعل مجتمعاتنا نهباً للثورية الكامنة ما دامت أسبابها متوفرة.
رابعاً: القوى الاجتماعية الجديدة:
مجتمعاتنا التقليدية تقوم على دونية المرأة، وحتى إذا منحها القانون حقوقاً سياسية ومدنية فإن الثقافة السائدة تحصر دورها في نطاق ضيق. لا يرجى لمجتمع أن ينهض مع تعطيل نصف سكانه. كثير من الدعاة يسشهدون بنصوص نقلية على دونية المرأة.
صحيح لدى نزول الرسالة الإسلامية كانت المرأة تعاني دونية هائلة في كل الأديان والثقافات. ما جاء به الإسلام حررها. ولكن الحضارة الحديثة أبرمت معاهدات تنص على إزالة كل أنواع التمييز ضد المرأة. بعض المسلمين يرفضون ذلك ويحتجون بنصوص.
ولكن النصوص تقول كذلك: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ). وتقول: “إِنَّمَا النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ”.
إن في النصوص المحكم والمتشابه، ومن النصوص ما يدعم إزالة كل وجوه التمييز ضد المرأة.
الاجتهاد لبيان ذلك ضروري لأن بعض المسلمات، مع وجود حقوق عالمية للمرأة، إذا اعتبرن أن دينهن يميز ضدهن يدفعهن هذا خارج الدين. أي أن هذا الأمر يمثل لهن سبباً في فتنة في الدين. والحقيقة أن الإسلام كان صيحة تحرر للمرأة، وأن رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كان متقدماً جداً في تعامله مع النساء حتى بمقاييس عصرنا، كان يعمل موظفاً وهو شاب لدى امرأة هي السيدة خديجة التي خطبته لنفسها فتزوجها، واكتفى بها في شبابه على مدى 25 عاماً فلم يعدد إلا بعد وفاتها، وكان يشاور نساءه ويتبع نصائحهن في أجلِّ الأمور وأعظمها، وكان يساعدهن في أعباء المنزل كلها، فالإسلام في الحقيقة جاذب حتى للنساء عالمياً لو أزيلت عنه أغلال الفقه الصوري المتأثرة بأزمنتها وأمكنتها وثقافات عصرها.
نعم هنالك وظائف مرتبطة بالذكورة وأخرى بالأنوثة هذه ينبغي اعتبارها دون أن يؤسس عليها دونية للمرأة. إزالة أسباب التمييز ضد المرأة ينبغي أن تراعي ثلاثة عوامل مهمة ألا يكون تشبهاً بالغرب، وألا يكون تشبهاً بالرجل، وألا يكون معارضاً للفطرة.
عالم اليوم متداخل وبالوسائط الاجتماعية في آفاق مشتركة. إن مطالب إزالة كل وجوه التمييز ضد المرأة مشروعة، والتفريط في الاستجابة لها يؤدي لخلل اجتماعي كبير.
إن عنوان هذا الإصلاح المطلوب هو المساواة في المواطنة، وهو ينطبق كذلك على مجموعات وطنية تشكو التهميش والمعاناة من المواطنة من درجة دنيا. ههنا ينبغي أن تتحق المساواة في المواطنة وإلا صار المتظلمون قنابل زمانية ضد الاستقرار:
إذا لَمْ يَكُنْ للمَرْءِ في دولة امرئٍنَصيبٌ ولا حظٌّ تَمَنَّى زَوالَها
خامساً: الرعاية الاجتماعية:
في العصر الحديث صارت دولة الرعاية الاجتماعية التي تكفل الخدمات التعليمية والصحية ركناً مهماً من أركان الحوكمة.
في هذا الصدد فإن التجارب الغربية لا سيما في بلاد الديمقراطية الاشتراكية صارت توفر الرعاية لمواطنيها من المهد إلى اللحد. إن الدولة الوطنية الآن تقاس بدرجة ما توفر من الخدمات الاجتماعية، ينبغي أن يجد كل مواطن رعاية صحية في كل مراحل حياته.
وأما التعليم ففي عالم اليوم صارت العلوم والتكنولوجيا من أهم وسائل التنافس بين الدول.
ههنا على التعليم أن يلتزم بنشر العلوم النقلية على أساس مناهج تعليمية جديدة، وأن يهتم التعليم بتحقيق مطلوبات التنمية وتسكين التكنولوجيا الحديثة.
إن أقصى الاهتمام مطلوب بتوافر مطالب دولة الرعاية الإجتماعية لأن هذا واجب في حد ذاته، وكذلك لأن المواطنين صاروا يقارنون بما يعرفونه من رعاية اجتماعية في الدول الغربية، وغيابها في بلدانهم. هذا من أسباب الهجرة للخارج بأعداد كبيرة ما يسبب نوعين من الضرر: ضرر على أوطانهم وردود فعل سالبة في البلدان المستهدفة.
إن توافر الرعاية الإجتماعية من أهم مقاصد الرسالة الإسلامية، عالمان في جامعة جورج واشنطن في أمريكا هما شهرزاد رحمان وحسين عسكري قاما بإستخلاص 113 مبدأ من نصوص الوحي الإسلامي وطبقاها على 208 دولة لمعرفة مدى إسلاميتها، سموه المقياس الإسلامي، وهذه المقاييس تتعلق بالأخلاق والمعاملات، فكانت الدول الموصوفة بالإسلام في مؤخرة القائمة. وأول دولة مسلمة في القائمة كانت ماليزيا: رقم 34.
هذه الحقائق من أكثر عوامل الغضب في البلدان الإسلامية خاصة في أوساط الشباب فيدفعهم الغضب للهجرة جغرافيا أو للهجرة من الوعي عن طريق المخدرات.
سادساً: البيئة الطبيعية:
البيئة الطبيعية هي موروث الأجيال الحالية والوديعة للأجيال القادمة، وتتعرض الآن لانحسار الغابات والتصحر ما أثر سلباً على قوت كثير من السكان، وأجبرهم على الهجرة للمدن وهي هجرة أدت لإنتشار العشوائيات السكنية وإلى ترييف المدن.
إن في انحسار أسباب المعيشة في الأرياف والبوادي والتوسع المرضي للسكن الحضري مخاطر اجتماعية وأمنية كبيرة.
هذه المضار المتعلقة بالبيئة الطبيعية سوف يزيدها الاحتباس الحراري سوءً. إن لإعطاء مخاطر البيئة أهمية خاصة، كما ينبغي الحرص على أن تدفع الدول المسببة للاحتباس الحراري تعويضاً للدول المتضررة بموجب مبدأ العدالة المناخية.
الآثار الضارة في البيئة الطبيعية سيكون لها أثر سلبي للغاية على استقرار المجتمعات.
إن رعاية البيئة الطبيعية من شجر، وماء، وحيوان، من أهم التوجيهات الإسلامية وهي كذلك صارت من أهم مطالب المعاهدات الدولية.
سابعاً: السلام بين الطوائف:
لا سلام مجتمعي ما لم يتحقق تعايش سلمي بين الطوائف، فإن العداء الحاد بين الطوائف الآن من أهم أسباب النزاعات بين مجتمعات المسلمين.. نزاعات تمتد إلى خارج الحدود الوطنية وصارت سبباً مهماً في الاقتتال الأهلي داخل أقطار المسلمين وفيما بينها.
في مقام آخر قدمنا ميثاقاً بعنوان “ميثاق المهتدين” يهدف للوفاق والتعايش بين طوائف المسلمين وإبرام هذا الاتفاق شرط ضروري لاستقرار مجتمعاتنا.
إن العلاقات بين طوائف المسلمين داخل كل دولة وفيما بين الدول من أهم التحديات التي تواجه مجتمعاتنا، والفتنة بين طوائف المسلمين اليوم تسببت في حروب أهلية، وحروب بين الدول. والمؤسف حقاً إن أعداء الأمة الأقربين والأبعدين يراهنون على استمرار هذه الفتن الطائفية لكي يخرب المسلمون بيوتهم بأيديهم.
ثامناً: السلام بين الأديان
لا يرجى تحقيق سلام بين مجتمعاتنا ودولياً ما لم يتحقق سلام بين الأديان. إن من أهم التحديات التي تواجه مجتماتنا التعامل بين الأديان. لقد اقترحنا ميثاقاً بعنوان” نداء الإيمانيين” لتبادل الاعتراف واحترام الحرية الدينية واحترام حقوق الإنسان.
تاسعاً: مسألة التنوع
التنوع الثقافي والإثني من حقائق الوجود (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ). إن السلام بين القوميات في إطار المواطنة الواحدة واجب وطني كذلك التعايش بين القوميات والثقافات عبر الحدود الوطنية.
عاشراً: العلاقات الدولية:
ينبغي التخلص التام عن مفهوم الولاء والبراء الاستقطابي فالله سبحانه وتعالى يقول: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ) .
والجهاد بالمعنى الواسع: جهاد النفس، والجهاد المدني بوسائل خالية من العنف لإعلاء كلمة الله واجب على كل مسلم ومسلمة حتى قيام الساعة.
ولكن ينبغي التخلص عن قتال الطلب جهاداً، فضوابط القتال المحكمة في الإسلام هي قوله تعالى: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخْشَوْنَهُمۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وينبغي التخلي عن التصنيف التقليدي الذي قام بين الدول في الماضي وادى لتقسيم العالم إلى دار سلام ودار حرب.
المطلوب الآن أن نعمل على جعل العلاقات الدولية قائمة على أساس أن العالم كله دار عهد للسلام والتعاون الدولي.
الأمم المتحدة الحالية قامت على أساس مبدأ التعاهد، ولكنها بشكلها الحالي بعيدة كل البعد عن التعاهد العادل لأنها أعطت 5 دول حقاً دكتاتورياً على 193 دولة. فمجلس الأمن يقوم على حقوق لخمس دول أعضاء فيه تسمح لأية دولة منهم أن تنقض قرار الأغلبية. هذا طغيان، وعلى نمطه أعطوا أنفسهم ميزات لملكية أسلحة الدمار الشامل. إنها أسلحة لا إخلاقية لأنها تقتل أضعافاً مضاعفة من المدنيين والأبرياء. وتحريمها على الجميع واجب، أما السماح بها لبعض الدول فإنه سقوط أخلاقي مضاعف.
نعم لإقامة كل العلاقات الدولية على أساس التعاهد من أجل السلام وحقوق الإنسان، ولكن لا بد من إصلاح عدالي لمؤسسة الأمم المتحدة الحالية.
إذن: لا للولاء والبراء الاستقطابي، ولا لجهاد الطلب، ولا لتصنيف العالم دار سلام ودار حرب.
ختاماً:
لا يرجى لمجتمعاتنا المعاصرة أن تحقق استقراراً حقيقياً، وأن تقوم بدور إيجابي في التاريخ، إلا إذا استطاعت أن تواجه التحديات العشرة المذكورة هنا. فان أخفقت فيها فسوف تجعل نفسها عرضة للقاعدية والداعشية من ناحية، وللثورات الربيعية من ناحية أخرى، ولتمدد نفوذ أعدائها على حسابها يسوقون دولها لمصالحهم ويتخذون منها ميادين لتصفية حساباتهم.
قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
وقال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) .
وقال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلِ الْجَاهِلِينَ”.
هذا تكليف يرجى أن يتسجيب له منتدى الوسطية العالمي بأن ينظم عشر حلقات دراسة لهذه الموضوعات العشرة، لتصوغ هذه الحلقات توصيات محددة في هذه المجالات لتنشر في كتاب بعنوان: “دليل التأصيل والتحديث”.
هذا الكتاب من شأنه أن يحقق صحوة إسلامية عصرية على الصعيد النظري يغرف من دليله من يشاء.
قال أفلاطون: إذا عرف الناس الحق والباطل لاتبعوا الحق. ولكن قال تلميذه أرسطو لا يكفي أن يعرف الحق ليتبع ولكن ينبغي أن توجد الإرادة المصممة على إحقاق الحق.
تطبيقاً: التحدي أن يوجد أنموذج لهذه الهندسة المنشودة (وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
* قدمت في ندوة “نهج تأصيل طالب العلم وتعزيز دوره الوسطي في تحقيق استقرار المجتمع”، المنتدي العالمي للوسطية،
عمان، الأردن.
الأحد 23 سبتمبر 2018