اجتهد عميقاً ماكس فيبر ليعرف من هو رجل الفكر ومن هو رجل السياسة، وكيف يقع التفريق بينهما، فبوصفه عالم إجتماع إنتهى الى خلاصات من دراسته الشاملة للاقتصاد السياسي ونتائج جعلته يؤكد أن السياسي ينبغى عليه ألا يرتزق معاشه من السياسة، بل لا بد له من مهنة أو مهن أخرى يكسب منها قوته، وتحمى رأيه من خوف العوز، وتبرئ موقفه من الارتهان وتحفظ استقلاله إلا من مصلحة الشعب.
كما أكد فيبر أن السياسة فى الوضع الطبيعى ينبغى ألا يفرغ لها إلا عدد قليل من الناس، لأنها فى وقعها المباشر لا تنتج طحيناً ملموساً ولا خدمةً ميسرة أو موصلة، بل إن الارتهان الطويل لها يخرج نمطاً مزمناً من العطالة لا يصلح بعده السياسي لأى عمل، فيظهر فى المجتمع طبقة من المعتاشين من السياسة دون حتى أن يكون لهم أجرٌ معلوم أو جهة معروفة تتولى صرف المرتب، أو ما نسميه long life unpaid.
كما غاص عميقاً ماكس فيبر فى الخلاصات النظرية، فقد راقب عن كثب السلوك السياسي، الذى يحول العمل السياسي الخطير الذى يتطلب كل العلم ومدى طاقة الخبرة إلى حملة مستمرة من العلاقات العامة، قد تنسج من حولها شبكة من علاقة القوة المستندة الى السلطة والمال فتتحول بالتدريج إلى شبكة علاقات اجتماعية المتصاهرة فى النسب المتشاركة فى الأعمال (Business)، المتواشجة بالجوار عبر طبقة طفيلية ممتدة بعرض المجتمع.
وأضيف من عندى قد تفرز العطالة المقنعة بالسياسة أنماطاً من الإدمان تجلس ذات المجلس فى ذات المكان تتبادل ذات الكلام بين ذات الوجوه وذات الروؤس.
أذكر فى تاريخٍ ما أن طلب منا ( ونحن عصبة من ناس الفكر ) الزعيم الروحى والسياسي والفكرى لحزبنا أن نتجاوز دور رجال الفكر لنخالط رجال السياسية لاسيما العسكريين منهم، وكان ذلك أمراً عسيراً أو بالأحرى متعذراً، ليس بسبب ( وأن مناخ أفكار غريب عن مناخاتك) فى شطر البيت المعروف لنزار قبانى، ولكن بسبب انشغالنا المستمر بالسوفت وير السياسي، فقلت لأحد حكماء جيلنا : يتعذر علينا منافسة الactivist فى هذا المضمار، ففلان يصلى المغرب مع الرئيس، ويشرب الشاى مع نائبه، ويتعشى مع الشيخ،. فرد حكيمنا مقالي فوراً هؤلاء ليسوا ب activist هؤلاء ( كرعينست ).
لا يمكن فى يومنا هذا من عصرنا هذا فى زماننا هذا أن تكون سياسياً ما لم تجلس إلى القراءة الحقة بضع ساعات فى اليوم، وقد تحولت السياسة بالفعل الى مهنة ( Profession) من أيام ماكس فيبر فى العقد الثالث من القرن الماضى إلى أيامنا هذه بين يدي العقد الثالث من الألفية الثانية، وإلا فالنتيجة بضع عشرات من الكرعينست يدخلون كل فج عميق من مجلس عزاء الى مطعم طعام.