بالقطع والجزم أن سعادة رئيس الجمهورية يشترك في “قروبات” منها ما يجمعه بأبناء حوش “ودبانقا” وآخر لأبناء “صراصر” ومثلها لأبناء دفعته بمراحل الدراسة والكلية العسكرية وبمسئولين وأصدقاء، ففي كل مرة تُنشر فيها صورة فوتوغرافية للرئيس وهو في حالة استرخاء بمنزله، يظهر على المنضدة أمامه كوب شاي بلبن بسعة ربع لتر مع هاتف “جيلاكسي” بشاشة 4 بوصة وهو في وضعية الاستعداد، وهذه ميزة يسّرتها تكنلوجيا هذا العصر لرؤساء العالم الثالث لم تكن موجودة في السابق تُمكّن الرؤساء من معرفة أحوال الناس من مصادرها، وليس من تقارير أفندية منافقين يكتبونها على الورق وهي لا تعكس الحقيقة.
ويُقال إن الرئيس الفريق إبراهيم عبود كان أول الذين أخذتهم الدهشة من ثورة الشعب عليه، ومطالبته برحيله في أكتوبر 1964، لأن التقارير التي كانت توضع على طاولته ويطّلِع عليها كل صباح، كانت تؤكِد له أن الشعب في حالة غِبطة وانبساط ليس هناك بعده من حكمه وعدالته، وقد حاول الرئيس نميري تفادي ما حدث للرئيس عبود بالاستفادة من تكنولوجيا ذلك العصر التي تمثّلت في شاشة “التلفزيون”، وابتدع طريقة التواصل المباشر مع الشعب في لقاء تلفزيوني شهري باسم “بين الشعب والقائد” يقوم فيه بالرد على الرسائل التي تحوي مشكلات المواطنين وملاحظاتهم مباشرة على الهواء.
وقد نجح البرنامج في عدد من الحلقات بتجاوب الرئيس نميري مع بعض الشكاوى التي طرحها الأهالي والاعتراف بالأخطاء ومعالجتها على الهواء، ثم ما لبث أن تبرّم النميري من تعاظم ورود الشكاوى وخشونة مواضيعها، فأخذ يُغلِظ في القول على أصحاب الشكاوى والإساءة إليهم، ثم توقف البرنامج بالضربة “القاضية” بقصة تستحِق أن تُروى بشيء من التفصيل، فقد كان للأستاذ عبدالباسط سبدرات حينئذ برنامج تلفزيوني يُقدمه على الهواء بإسم “أقبل الليل” أو شيء قريب من ذلك، استضاف فيه الرائد زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر عضو مجلس قيادة “الثورة” ووزير الشباب والرياضة آنئذٍ، وزين العابدين “رحمه الله” لمن لا يعرف، كان بارعاً في عزف العود، وصاحب صوت شجيّ ورخيم، وفي الحلقة تغنّى “الزين” كما يفعل المطرب المُحترف، وأثناء سير الحلقة فوجئ المشاهدون بالرائد أبوالقاسم محمد إبراهيم نائب رئيس الجمهورية يعترض كادر الكاميرا، ويتجه صوب مقدم الحلقة وضيفه، ثم قام بسحب كرسي، وجلس إلى جانبهما.
ارتبك سبدرات للحظات قبل أن يُبادر أبوالقاسم بتفسير حضوره المفاجئ فقال: “أنا كنت قاعد في البيت بعاين في التلفزيون، ومما شفت صاحبي زين العابدين طوالي دوّرت عربيتي وجيت محصلكم” ثم التفت إلى سبدرات وهو يقول له مُعاتباً: “إنت ليه بتعزم الزين في برنامجك وما بتعزمني؟”. تجاهل سبدرات ذلك وحاول الخروج من الورطة بتوجيه سؤال للرائد أبوالقاسم يعيد به الحلقة إلى مسارها، فقال له: “نحن كنا نتكلم عن أغاني الفنانين الكبار، فمن يُطرِبك منهم؟” أجاب أبوالقاسم في سرعة كأنه يتوقع السؤال: “أنا لا تقول لي الكاشف ولا أبوداود ولا عشة الفلاتية، أنا فناني أهو ده”، قال ذلك وهو يُشير إلى زين العابدين بأصبعه وقد كاد أن يلمس أرنبة أنفه، ثم مضى يقول: “الزين ده فناني من نحن في الكلية الحربية ما بطرب لي زول غيرو”.
عند إذاعة الحلقة، كان النميري في زيارة خارج السودان، ولما عاد وجد هذا الموضوع قد أصبح حديث الشارع؛ لأن النائب الأول ظهر، وهو في حالة غير طبيعية. وفي أول ظهور للنميري في برنامجه الشهري قال إنه سمع بما يتردد حول هذا الموضوع، وإنه شاهد تسجيل الحلقة عدة مرات، ولم يجد شيئاً يؤخذ على نائبه أبوالقاسم، وجزم بأن الأخير كان في حالة طبيعية بما يعني أن الخلل في عيون المواطنين، ثم عاد النميري إلى حالة الانفصال عن الواقع من جديد.
هناك أكثر من أمارة تُشير إلى أن الرئيس البشير له قدر من الإلمام بما يتداوله الشعب عبر تطبيقات الشبكة العنكبوتية، وقد حكى بنفسه في لقاء تلفزيوني بعض الطرائف التي تُروى حوله شخصياً في الشارع وهو يقهقه برغم مُشتملاتها (أعني الطرائف) تُسيل الدموع، وقد علمت من مصدر له صلة بدائرته أنه كثيراً ما يُنادي أحد مساعديه المُقربين بكنيته المعروفة في أوساط الناس ب”اللِّنبي” على سبيل الفكاهة.
قلنا أنه من الثابت أن للرئيس “قروبات” تجمعه بآخرين، وقد تأكد ذلك من واقع مقطع صوتي شهير تسرّب من أحد أعضاء تلك القروبات، بيد أنه لا دليل على أن هناك فائدة قد عادت من وراء هذه التكنولوجيا في حالة رئيسنا، فالواضح أنه لا يرى ولا يقرأ فيها إلاّ ما يُطربه ويُشجيه، والقليل الذي تسرّب من أحد تلك القروبات كان لأحد أعضائه ينصح فيه الرئيس بأن “يأخذ باله على صحته” بالمشي والرياضة حتى يطول عمره. والدليل على ذلك أن الرئيس له رأي آخر فيما يراه جموع المواطنين حول حال البلد وأهلها.
في الوقت الذي يستقبِل فيه المواطن العادي في اليوم الواحد على التطبيق السحري الذي يُسمّى “الواتساب” مئات الصور الفوتوغرافية والمقاطِع المُصورة التي تعكس الفواجع والمآسي التي يعيشها العباد في مختلف أنحاء البلاد، من بينها صور لمرضى يفترشون قطعة “خيش” على الأرض الفضاء بالمستشفيات فيما يُعلّق كيس المحلول الوريدي الذي يُعالج به على فرع شجرة، وصور لتلاميذ صغار يتخذون من قوالب الطوب والقيروانات مقاعد للدراسة في فصول بلا جدران على الهواء الطلق، وهناك مقطع مُصوّر لطفل عمره نحو ت9 سنوات يحمل جوّالاً مهترئاً على ظهره، ويرقد بداخله شقيقه الأصغر ورأس الصغير يكاد يُلامس الأرض، وقد صاحب الصورة تعليق يحكي قصة هذه التعاسة التي تفطر هي الأخرى الفؤاد إلى تسعة أشطار، يقول إن الطفل الذي يحمل الجوال يطوف بأخيه أمام مستشفى الخرطوم أملاً في حصوله على فاعل خير يتكفّل بعلاج شقيقه المكلوم الذي يرقد على ظهره، وهو عاجز عن حمل رأسه على كتفيه.
كل هذا لا يراه الرئيس، وهو يرى (بحسبما قال في تصريح مؤخراً): لو أن ما حققه الدكتور مأمون حميدة كان هو الإنجاز الوحيد للإنقاذ لكان ذلك كافياً له لضمان فوزه بالرئاسة لفترة قادمة، ووجه المسخرة في مثل هذا القول، بخلاف مضمونه الخاطئ وغير الصحيح، أن الذي يمنع الرئيس من الترشُّح لفترة رئاسية قادمة ليس هو جلال أعماله أو سوئها، وإنما عائق النص الدستوري الذي يمنع ترشحه أكثر من دورتين أستنفدهما بالكامل، (والصحيح أنه أكمل خمس دورات)، وهو في هذا القول مثل الشخص الذي يُعرِب عن عدم رغبته في الزواج من شقيقة زوجته، وهو يعلم أن ذلك غير جائز من الأساس لكونه يُخالف الشرع والقانون من الأساس.
كما أن الرئيس وبقلب جامد يحكي عن البيئة المدرسية في المدارس الحكومية، وكيف أنها أصبحت أفضل من المدارس الخاصة، وعن الفرق في الملاعب التي توفرها اليوم الدولة في الأحياء السكنية لإقامة “السداسيات” بين الشباب تحت الأضواء الكاشِفة في مقابل “دافوري” زمان… إلخ.
ما جعل هذه الخواطر تتداعى في تفكيري هي الفرصة الذهبية التي أتاحها فاعل خير بنشره صورة للسيد رئيس الوزراء الجديد وهو يقف في ساحة منزل شعبي وحوله عدد من المسؤولين والعسكريين ومعها تعليق يقول إن الصورة ألتقطت لمعاليه في أثناء زيارة قام بها للاعتذار وتطييب خاطر الطبيبة الشابة التي كان قد أساء إليها حرسه الخاص وفُصِلت من العمل، وقلنا إن ذلك لا بد أن يكون بعد أن شاهد رئيس الوزراء على “اليوتيوب” ما قام به رئيس عنبر بمستشفى في بريطانيا من مهزأة لرئيس الوزراء البريطاني “توني بلير”، وكان على رأس السلطة بسبب زيارته أحد المرضى من أقربائه وحديثه بصوت عالٍ بالمخالفة لنُظم وتعليمات المستشفى، ثم “كرَشَه” رئيس العنبر أمامه إلى خارج المستشفى.
ثم اتضح أن رئيس الوزراء هو الآخر لا يحتفظ بحساب “واتساب”، وأن الطبيبة لا تزال في منزلها تنتظر التحقيق معها بتهمة الإساءة إلى حرس الرئيس.
saifuldawlah@hotmail.com