الطيب عبدالله
أيوحشني الزمانُ وأنتَ أُنسي
ويُظْلِمُ لي النهارُ وأنــتَ شَــمْسي
وأغْرِسُ في مَحَبتِكَ الأماني
وأجني الشوكَ من ثَمراتِ غرسي
لقد جازيتَ غــدراً عن وفاءٍ
وبِعْــتَ مَــودَتــي ظُــلْماً بِبَــخْسِ
ولو أن الزمانَ أطاعَ حُكْمي
فَدَيتــُك مـن مـَكارِهـــه بِنَفــــسي.
بهذا الشعر الجزل لأبي الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي، يمهد ينبوع الشجن الأصيل الفنان المبدع الطيب عبد الله أو “يرمي” كما نقول، لغناء رائعة الشاعر الكبير الطيب العباسي عليه رحمة الله: يا فتاتي ما للهوى بَلدُ/كلُ قلبٍ في الحبِ يَبتَرِدُ/ وأنا ما خُلِقتُ في وطنٍ/ في حماه الحبُ مُضْطَهدُ!
هذا الاستهلال الجميل المنتقى من بستان ابن زيدون الشعري ما كان له أن يتأتى إلا لفنان هو نفسه شاعر فخيم يصنع الكلام الجميل ويعرف كيف يختار القوافي الباذخة. وحين يكون هذا الاستهلال مقترنا بشعر صادق معبر مثل قصيدة “ذات الفراء” وبلحن فيه ما فيه من التطريب والموسيقى والأداء تكون الروعة قد بلغت مداها.
ولا أشك لحظة في أن الفنان الطيب عبد الله قصد أن يمزج بين تجارب إنسانية عاطفية متنوعة. فيها ما نستوحيه من أدائه المتميز “للرمية” وما نعرفه عن ابن زيدون وقصة عشقه لولادة بنت المستكفي التي سارت بذكرها الركبان، وفيها كذلك ما نلمسه من غنائه بشجن دافق لنص “يا فتاتي” الذي سكب فيه العباسي ذوب مشاعره. ففي قولٍ آخر لابن زيدون في محبوبته ولادة ملامحٌ وظلالٌ لما وجده شاعرنا الكبير الطيب العباسي من صدود عند تلك الفتاة “ذات الفراء”!، يقول ابن زيدون: أحِينَ عَلِمْتَ حَظّكَ من وِدادي/ وَلَمْ تَجْهَلْ مَحَلّكَ منْ فُؤادِي/ وَقادَنِيَ الهَوى فانقدْتُ طَوْعاً/ وَمَا مَكّنْتُ غَيرَكَ مِنْ قِيَادِي/ رضيتَ ليَ السِقامَ لباسَ جسْمٍ/ كَحَلت الطَّرْفَ مِنْهُ بِالسُّهَادِ/ أَجِلْ عينَيْكَ في أسْطارِ كُتبي/ تجدْ دمْعي مزَاجاً للمِدادِ/ فدَيْتُكَ إنّني قدْ ذابَ قلْبي/ مِنَ الشّكْوَى إلى قَلْبٍ جَمَادِ!
وقريبٌ من لوحةِ بن زيدون العاطفية وما فيها من معاني الصدود وتَمَنُعْ الحبيب من الوِصَال قولُ العباسي:/فلماذا أراكِ ثائرةً / وعلامَ السِبابُ يَطَرِدُ/ والفراءُ الثَمينُ مُنْتفضٌ/ كَفُؤادٍ يشقى به الجسدُ/ الأن السوادَ يغمُرني/ ليس لي فيه يا فتاةُ يدُ/ أغريبٌ أن تعلمي فأنا / لي ديارٌ فيحا ولي بلدُ/ كم تغنيتُ بين أرْبُعِهِ/ لحبيبٍ في ثغره رَغَدُ/ ولكم زارني وطوقني/ بذراعيه فاتنٌ غَرِدُ/ أي ذنبٍ جنيتُ فاندلعتْ / ثورةٌ منك خانها الجَلَدُ!
أي سحر وأي جمال هذا الذي أضفاه الفنان الشاعر الطيب عبد الله على ساحة الغناء السوداني وهو ينتقي هذه الدرر الشعرية ويزينها بالرائع من الألحان والأداء المتميز لتبقى درة متفردة في عقد أغنياته النضيد؟! وما الذي جمع بين هذا الثلاثي الرائع، الشاعرين ابن زيدون والعباسي والفنان الشاعر الطيب عبد الله، إن لم يكن ذلك الزمن الجميل الذي لم تبق منه إلا أصداء وذكريات نبيلة نعود إليها كلما تاقت نفوسنا إلى شيء من الألفة والصفاء، وصدق ابن زيدون: إن الزمان الذي ما زال يُضْحكنا أنسًا بِقُرْبِهُم قد عاد يُبْكينا!