الخرطوم – التحرير:
أضحت مواقع (التواصل الإجتماعي) بلا استثناء، ميداناً مفتوحاً لمعارك كرّ وفر ضارية، يدور رحاها داخل العقول وحولها.
معارك تهدف بشكل أو بآخر، لرسم وترسيخ صور ذهنية ونمطية، قابلة للتصدير والانتقال من عوالم مجازية مفترضة هي بالأساس، الي أرض الواقع، لتلقي بظلالها وتأثيراتها في الناس والحياة.
حروب القرن:
بل رفع خبراء يشار إليهم البنان وسائل التواصل الاجتماعي الي مرتبة السلاح الاستراتيجي للقرن (21)، يوازي تأثيرها إن لم يفوق أسلحة الردع النووي في القرن العشرين، بعد دخولها بالفعل كسلاح مجرّب في حروب بين الدول وداخلها.
أطلق خبراء النيتو علي تلك الحروب اسم “الحرب الهجين” التي تجلت في نموذج الصراع في أوكرانيا كأنصع ما يكون، بل ويؤكد الخبراء الآن وجود أكثر من صيغة حرب هجين بين حلف الأطلسي، وروسيا وحلفائها الجدد بالطرف المقابل.
وكشفت الانتخابات الأميركية الأخيرة عن شكل من أشكال التدخل الإلكتروني من موسكو، أثر بصفة مباشرة في التجربة الديمقراطية الأميركية.
و في سياق التحقيق القضائي البريطاني بشأن شركة “كامبريدج آناليتكا” برزت الكيفية التي يمكن من خلالها جعل شبكات التواصل الاجتماعي أداة حربية بامتياز.
فقد تبيّن أن دراسة أجراها خبراء في علم النفس من جامعة كامبريدج في عام 2013م شملت 58 ألف شخص من مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي الشهير “فيسبوك”، ساهمت في تحديد ميولهم السياسية عبر تحليل بياناتهم المتاحه علي الموقع.
وتضافر ذلك مع قيام روسيا بشراء إعلانات سياسية، و إنشاء مواقع إخبارية ملتبسة، و حسابات شخصية علي الموقع ذاته “فيسبوك” بغرض التأثير في نتائج الانتخابات الأميركية؛ مما حدا بوزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون للاعتراف بأن روسيا كسبت جولة من حرب هجين، علي حساب الولايات المتحدة هذه المرة.
الإنهاك البطئ:
وهذا النمط من الحرب الهجين لا يبتعد كثيراً عما يعرف بحروب الجيل الرابع -أميركية الصنع- التي تتداخل فيها الخطوط بين الحرب العسكرية والسياسية في آن معاً، و التي تقوم علي إستراتيجية (الإنهاك البطئ )، الذي يهدف هو إلى زعزعة الاستقرار وإشاعة الفوضى في بلاد الخصم، وإفشال دولته، دون تدخل عسكري إلا في حالات نادرة، يتلوها فرض واقع جديد يراعي المصالح الأميركية بالضرورة.
الفوضي الخلاقة:
تؤدي الحرب النفسية دوراً بارزاً في مثل هذه الحروب، من خلال استخدام وسائل الإعلام المختلفة، وعلي رأسها بالطبع مواقع التواصل الإجتماعي بالغة الأثر.
وتلجأ الدولة المهاجمة إلى تحريض الشعب في دولة ما ضد نظام الحكم القائم فيها، أو تسلّط اجهزة هذا النظام نفسه ضد شعبها بطريقة أو بأخري، لتصبح هي أداة لإرهاب المواطنين وقمعهم من أجل إثارة الفوضى في النهاية.
و هي صورة ليست بعيدة من الواقع المعقد الذي نشهد جانباً منه في بلداننا بهذا الجزء من العالم.
حالة الحرب:
وهنا أعلن أمس فقط الرئيس البشير أن حرباً نفسية تشنها الآن جهة ما –لم يسمها- عبر تطبيق التراسل الفوري “واتساب”، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، في محاولة لإشاعة روح الإحباط بين الناس.
وضرب البشير مثلاً لهذه الحرب بما يجري حالياً ترويجه من خلال ال”وسائل التواصل الاجتماعي” عن حالة و آثار الحمّيات التي ضربت مدينة كسلا مؤخراً، بنشر هذه الوسائط لقوائم باسماء و أعداد من ماتوا بسبب الإصابة بحمي “الشيكونغونيا” التي أشتهرت محلياً بحمي “الكنكشة”، في حين اكد البشير أن منظمة الصحة العالمية قطعت بعدم حدوث حالة وفاة واحدة رصدتها أجهزتها جراء هذا المرض.
سلاح المعركة:
وحسب الأرقام المعلنة يقول الكاتب الصحافي بصحيفة “الشرق الأوسط” عثمان ميرغني إن عدد مستخدمي “الوتساب” بلغ ملياراً و500 مليون شخص حول العالم، يتبادلون 65 مليار رسالة يومياً، و 4 مليارات و500 مليون صورة، و مليار فيديو، وأشار ميرغني الي أن هذه الأرقام تؤكد أهمية “واتساب” وقدرته البالغة علي التأثير في الرأي العام وتوجهاته، و أكد الكاتب في مقال نشرته الصحيفة اللندنية مؤخراً، أن هذا التطبيق الذي لم يتجاوز عمره تسع سنوات بات الأهم في العالم، بما في ذلك العالم العربي، لتبادل الرسائل متجاوزاً “ماسنجر” و”فيس بوك”.
كرة الثلج:
ومضي مقال الكاتب الذي نشر تحت عنوان “الواتساب و الكنكشة” الي أن موضوع حميات كسلا تضخم بسرعة مثل كرة الثلج المتدحرجة، في ظل تداول الناس آلاف المقاطع الصوتية و المصورة، و أكثر من مقالات وتعليقات.
ويقول ميرغني: انتشرت التكهنات، واختلفت الروايات حول حقيقة ما يحدث، ونوع المرض الذي ألم بالناس، و حول عدد المصابين والمتوفين.
فقدان الثقة:
وبدا في نظر الكاتب أن “الواتساب” سلاح ذو حدين مع أنه ساعد علي تسليط الضوء علي ما يحدث في كسلا ومنعّ محاولات التعتيم من قبل جهات رسمية، لكنه في الوقت ذاته امتلأ بمداخلات مضللة و معلومات مغلوطة منها معلومات طبية حول التشخيص و العلاج للمرض.
وقال ميرغني أن تطبيق “واتساب” أصبح مع غيره من وسائل التواصل الإجتماعي ملاذاً للباحثين عن معلومة، أو الذين يريدون نقلها للملأ، لأن كثيراً من السودانيين فقدوا الثقة في الروايات الرسمية.
سؤال المرحلة:
فهل يكفي الآن أن نضع تطبيق التراسل الفوري “واتساب” في قفص الاتهام فحسب؟، مع التشكيك بالطبع في نوايا مستخدميه، وأغراضهم وراء هذا الإستخدام الضار ربما؟ أم نذهب لتفسير أبعد هو أقرب لنظرية المؤامرة بالضرورة، لنري شجراً يسير نحونا، من طلائع الحرب الهجين، أو حرب الجيل الرابع إن شئت؟.