الخرطوم – التحرير:
لسنوات طويلة ظل مواطنو منطقة الباقير التابعة لمحلية الكاملين يشكون مر الشكوى من مخلفات المصانع التي أقلقت مضاجعهم، بعد تفاقم الأوضاع، وازدياد عدد حالات الوفيات، وحالات الإجهاض وسط النساء؛ بسبب تلك الغازات الضارة التي تنبعث من المصانع، علاوة على مخلفاتها، التي التي تفرغها قريباً من مناطق السكن.
وتعد منطقة الباقير من المناطق الصناعية الكبرى التي يوجد بها كثير من المصانع المختلفة، إلا أن هذه المصانع لا تعمل وفقاً للمعايير المطلوبة من حيث التخلص من مخلفاتها وأبخرتها التي تتصاعد مسببة تلوثاً بيئياً ترك آثار سالبة في سكان المنطقة ، وخلف أضراراً صحية بالغة جراء الدخان الكثيف الذي ينبعث من أفران الرصاص البلدية التي تقوم بتفريغ جميع محتويات البطارية وحرقها في العراء؛ مما أثرّ في صحة الإنسان والحيوان، علماً بأن الدخان الكثيف الذي يخرج من البطارية يحتوي على مواد سامة مسرطنة، مثل: الرصاص ومشتقاته، بجانب مدبغة افروتان التي تسكب جميع مخلفاتها في العراء، وبالقرب من مساكن المواطنين.
والمثير في الأمر أن السلطات فشلت في إيقاق تلك المصانع والأفران التي تعمل بطريقة عشوائية، بل أُضيفت إليها مصانع أسمنت أخرى ساعدت على تلوث البيئة، وتسببت في تفشي الحساسيات، وبعض الأمراض الجلدية بين سكان المنطقة.
وعلى الرغم من أن وزارة البيئة قد أعلنت في وقت سابق إغلاق تلك الأفران، إلا أنها ما زالت تعمل بصورة خفية في أوقات متأخرة من الليل، وبصورة يومية ،حسب ما ذكر مواطنون.
(التحرير) كانت هناك لتقصي حقيقة الأمر، بعد أن وردت شكاوى متعددة من قبل المواطنين حول التلوث البيئي، وانتشار الأمراض وخرجت بالمثير الخطير في هذا التحقيق.
الطريق إلى الباقير:
عندما وصلنا إلى الباقير قابلنا سكان المنطقة بكثير من الشكاوى، التي تركزت في وجود حالات وفيات جراء الحساسيات التي سببتها سموم مخلفات المدبغة التي تسكب في العراء من دون أي نوع من المعالجات، الأمر الذي جعل بعض المواطنين الذين يسكنون بالقرب من المدبغة يغادرون منازلهم خشية من الأمراض التي تفشت مؤخراً مثل (الرمد الربيعي، والالتهاب الرئوي إضافة إلى الأمراض الجلدية والدسنتاريا ).
أمراض مزمنة :
بعد وصولنا إلى منطقة الباقير بعد معاناة طويلة قاربت الساعتين كان لا بد لنا أن نأخذ قسطاً من الراحة نسبة إلى طول الطريق، وبالفعل جلسنا داخل كافتريا في وسط السوق، وبينما كنا جلوساً داخل الكافتريا نتناول وجبة الفطور أتت إحدى النساء، ومعها زوجها وبرفقتهما طفل صغير يراوح عمره ما بين (5-7) عاماً هزيل الجسم تبدو عليه علامات الأرق والتعب، و تنتشر في جميع أنحاء جسده الهزيل بقع صغيرة متفرقة حتى وجهه لم يسلم من ذلك الطفح الجلدي.
الطفل المريض ووالدته جلسا في طاولة بالقرب منا، وبمجرد أن رأهم عامل الكافتريا أتى إليهم مهرولاً، وقال لهم: (حمداً لله على السلامة)، عندها أدركت أنهم جاؤوا من رحلة استشفاء؛ لذلك عاجلتهم بسؤال عن الطفح الذي بجسد الطفل ، اخطرتني والدته أن هذا الطفح نتيجة مخلفات المدبغة ومصنع الأسمنت، وأنهم الآن قادمون من الخرطوم بعد رحلة علاج طويلة قاربت الشهر.
والتقينا في الكافتريا بمجموعة كبيرة من المواطنين الذين اشتكوا مر الشكوى من مدبغة (افروتان)، وقالوا إن هناك حالات وفيات كثيرة جداً وطفح جلدي بسبب المخلفات بجانب تكاثر البعوض والذباب وبعض الحشرات الضارة.
مشهد أول :
بعد أن فرغت من حديثي مع المواطنين الذين التقيتهم داخل الكافترياوخارجها، والوقوف على تلك الحالة النادرة، كان لا بد لنا التوجه نحو المدبغة ،والتأكد من مدى دقة ما ذكره المواطنون. وبالفعل توجهت صوب المدبغة، وعندما وصلنا إلى منتصف الطريق ضلت العربة التي كانت تقلنا طريقها إلى المدبغة، إلا أن الرياح كانت رسولاً صادقاً لإيصالنا إليها؛ وذلك لأن الرياح جلبت لنا الروائح النتنة، عندها أدركت تماماً أننا قد اقتربنا منها لزيادة الروائح وتكاثر الذباب.
بعد وصولنا إلى المدبغة أدهشني كثيراً منظر بقايا ومخلفات (الجلود) والمياه النتنة التي استخدمت في المدبغة، وهي مسكوبة على الأرض بصورة مزرية، ومازالت هناك كميات أخرى اكبر من التي سكبت في طريقها إلى المجرى عبر (خرطوش) موصل من المصنع إلى المجرى مباشرة، ومن دون أي معالجات، وأمام منازل المواطنين؛ مما جعل المنطقة مرتعاً للذباب والبعوض، إضافة إلى (الديدان ) الصغيرة التي تسللت إلى منازل المواطنين عن طريق المجرى والهواء و(الصور خير برهان).
الخطر الداهم:
وأشار خبراء في مجال الصحة والبيئة إلى أن هذه المدابغ تنتج مواد كيمائية ضارة بالبيئة وصحة الإنسان، وأن كثيراً من المدابغ العاملة في السودان لا تلتزم بمعالجة التأثيرات السالبة في الإنسان والبيئة، والتي من الممكن أن يمتد تأثيرها إلى العاملين داخلها، وذلك بتفشي الأمراض الجلدية والصدرية، فمادة الكروم المستخدمة تؤثر في البيئة، وتلوث المياه الجوفية، وتسبب العقم والإجهاض، وهناك مواد أخرى ضارة وقاتلة تستخدم في المدابغ، وتعكس أثرها السلبي في المواطن مثل مادة (التيتانيوم المشعة والزرنيخ والسلفر برومايد)، وجميع هذه المواد المستخدمة مسرطنة، إلا أن الجهات المختصة تجهل أو تتجاهل هؤلاء الذين يتلاعبون بحياة المواطنين.
مر الشكوى:
المواطنون الذين التقتهم الصحيفة اشتكوا من تعرضهم لكثير من المخاطربسبب قيام المدبغة وسط مساكن المواطنين، وقالوا إنها سببت لهم أمراضاً، مثل: الحساسيات والربو وبعض الالتهابات المزمنة، وأشاروا إلى أن تلك الأمراض كانت سبباً في وفاة عدد من الأطفال.
وقال المواطن سيف الدين حسين إنه يسكن بالمنطقة منذ عام (1992)، وإنهم يعانون منذ ذلك الوقت من مخلفات المصانع ، وبعد قيام المدبغة ازدادت معاناتهم؛ لأن عمال المصنع يسكبون مخلفات المصانع وسط الحي وفي العراء، وقال: “حتى المجاري التي تسكب فيها تلك النفايات غير عميقة كي تخفي الروائح النتنة والقاتلة؛ وهذا ما أدى إلى تفشي الملاريا والحساسيات، بجانب الإسهالات بأنواعها المختلفة وسط المواطنين”.
وأضاف سيف الدين: “عندما تفاقمت الأوضاع ذهبنا إلى صاحب المدبغة، وأخطرناه بالأضرار التي لحقت بنا جراء قيام مصنعه وسط المنطقة، إلا أنه لم يهتم بطلبنا، وقال لنا إنه ليس لديه القدرة لمغادرة المكان الا بإخطار رسمي من قبل الجهات المختصة). وأشار المواطن سيف إلى أن معاناتهم تزداد في مطلع شهر يوليو لأن الرياح تغير مسارها فيعكس الهواء الروائح النتنة لدرجة جعلت جميع المواطنين يستخدمون حطب الطلح للوقاية من الروئح الكريهة والذباب الذي يكتسح منازل المواطنين.
هواء ملوث:
وخلال جولتنا في الأحياء السكنية القريبة من المصانع شاهدنا دخاناً كثيفاً كاد أن يصيب بعضنا بالاختناق ينبعث من أحد المصانع، وذهبنا إلى حيث مكان الدخان، ووجدنا مادةغير معروفة يتم حرقها وسط ميدان داخل أحد الأحياء ، علمنا من أحد ساكني الحي أن هذه المادة هي مخلفات الأفران البلدية التي تحرق جميع مشتقاتها في العراء.
شكوى رسمية:
وأوضح أحد مسؤولي المنطقة فضّل حجب اسمه أنهم بعد تفاقم الأوضاع دفعوا بعدة شكاوى إلى المحلية، وبعض الجهات المختصة بخصوص المدبغة ومصانع الأسمنت الموجودة إلا أنها ظلت صامتة، ولم تتخذ إي إجراءات قانونية ضدهم، الأمر الذي جعل أصحاب المصانع يعملون دون حذر؛ لأن الجهات المختصة أصلاً غير مهتمة بصحة المواطن،
وواصل حديثة قائلاً : “قبل فترة قصيرة سقط أحد الاطفال في بركة مياه المدبغة، حدث ذلك عندما كان أطفال المنطقة يلعبون كرة القدم في الميدان الوحيد المخصص للعب الأطفال، الذي استخدمه أصحاب المصانع في التخلص من نفاياتهم السامة والقاتلة، فتعثر أحدهم وسقط داخل مجرى النفايات أصيب بعدها بطفح جلدي والتهابات أدت إلى وفاته بعد أسابيع قليلة جداً”.
وأشار إلى أنه رغم تلك الحادثة إلا أن إدارة المصنع لم تحرك ساكناً، ولم تهتم بقضايا المواطن، وعندما طلبنا من أسرة الطفل التقدم ببلاغ لأخذ تعويض نسبة لوفاة ابنهم رفضت الأسرة، ورأت أن ما حدث قضاء وقدر، علماً بأن أكثر المناطق المتضررة من تلك المخلفات هي مناطق (غرب وشرق البحر، ومنطقة حبيبة جنوباً وشمالاً، إضافة إلى حي تبري والباقير شرقاً).
تسمم وسط الماشيه :
لم يتضرر من تلك السموم والمخلفات الضارة الإنسان فحسب، بل امتد أثرها إلى الزرع والضرع، وذلك بحدوث تلف في التربة أثر في الإنتاج السنوي للمحاصيل، إضافة إلى حدوث حالات تسمم وسط الأبقار فاقمت من حالات الموت المفاجئ للماشية، كما ورد على لسان الراعي جبرالله أحمد جبرالله، الذي أكد في حديثه لـ (التحرير): “نعاني منذ فترة طويلة الروائح الكريهة الناتجة من راجع إحدى شركات الزيوت والشحوم بالمنطقة، التي أثرت في المزارع والحيوان في ظل معاناة استمرت فترات متباعدة، وشكاوى متصلة، ولكن دون جدوى أو تحرك إيجابي من الجهات ذات الصلة”.
وأضاف جبرالله قائلاً: “تقوم الشركات بسكب مخلفاتها من الزيوت والشحوم والرصاص، إضافة إلى مواد كيمائية أخرى في العراء، وبالقرب من المزارع، الأمر الذي جعل المياه الملوثة تتسرب إلى مياه ري المزارع، وتتسبب في تلف الأراضي والمحاصيل الزراعية، وهناك اعداد كبيرة من المواطنين فقدوا جزءاً من ثروتهم الحيوانية بسبب تسرب تلك الزيوت”.
صمت جبرالله لبرهة وتحدث بصوت خافت وهو يشير بعصاه إلى أحد المجاري قائلاً : ” أمس عندي بقرة ماتت”، وواصل : “بالأمس تعرضت إحدى أبقاري لحالة تسمم مفاجئ وتوفيت، وذلك بعد أن شربت من المياه المسكوبة في العراء والمختلطة بالزيوت وبعض المواد الكيمائية السامة، وعندما ذهبت إلى المصنع لمقابلة المدير لأخطره بأن يسكبوا مياههم السامة خارج المنطقة، قام أحد عمال الحراسة بطردي، وطلب مني عدم العودة مرة أخرى”.
حالات مستعصية:
وأقر مساعد طبي بمنطقة دار السلام بالباقير – فضل حجب اسمه – أن 60% من الحالات المرضية في الباقير سببها الرئيس مخلفات المصانع، مثل الجيوب الأنفية والالتهابات الجلدية والرئوية، بجانب الالتهابات المعوية مثل الدسنتاريا، وقال: “نستقبل يومياً نحو (20) مريضاً من فئات عمرية مختلفة، وبعد التحاليل يتضح أن السبب الرئيس في إصابتهم هو مخلفات المصانع والأبخرة السامة”، علماً بأن هنالك بعض المواطنين يذهبون للاستشفاء خارج المنطقة، أو في عيادات أخرى؛ لذلك أعتقد بأن عدد الإصابات أكبر من العدد المذكور بكثير، كما أن هنالك حالات مرضية وسط عمال المصانع بسبب الغازات المنبعثة من داخل المصانع، إضافة إلى وجود بعض حالات الإجهاض وسط النساء، ومضى قائلاً: “الروائح الكريهة والغازات يمكن أن تتسبب في إجهاض النساء في حالة ضعف الدم والضعف العام”.