قبل عدة أيام ذهبتُ إلي السوق لأشتري شاحن تلفون، عُرضت علي شواحن بأسعار مختلفة تراوح من 200 إلي 30 جنيهاً، فاشتريتُ أحدها ب 120 جنيها بوصفة شاحن وسط، وعند سخانة اليومين الفائتين وضغط الشاحن داخل الشنطة طار الغطاء الأعلى للشاحن، فعلمت أنه مصنوع من مادة بلاستيكية لا تحتمل الضغط أو السخانة عكس الشواحن الأخرى التي يضرب الشخص بها الحائط دون أن تتأثر، فمنذ زمن طويل أعتقد أن الشواحن مصنوعة من مادة محكمة، ويؤكد يقيني هذا الفنيون الذين ذهبتُ لهم لصيانة شاحن يقولون “لا يُمكن صيانة الشواحن لأنها غير قابلة للفك”.
وعليه شعرت بعدم التوازن والحرج، ومدى قُدرة الآخرين على خداعي …الخ. إلا أن جملة “صُنع في الصين” أعادت لنفسي التوازن، وخلصتني من الارتباك والشعور بعدم الوعي بشراء الإلكترونيات، كما أرجعتني إلى سنين دراسة الفلسفة المعاصرة وخاصة البراغماتية التي ترى أن الاعتقاد بوجود الله اعتقاد صحيح؛ لأن هذا الاعتقاد يؤدى إلى نتائج عملية مرضية، وحينها يشعر الفرد بالراحة والسلوى.
ما ذكرته عن هذا الشاحن لا يختلف عن كل المنتجات الصينية إلكترونية أم غير إلكترونية، مصنعة أم مجمعة. فهي علي حسب سوق الإلكترونيات على الأقل ثلاثة مستويات “صينية”، “وصينية صينية” و”صينية أصل الصين”.
لكن هل هذا يرتبط بأبجديات البحث العلمي في التربية؟ إذ إن محاضرات طلاب البكالوريوس لمقرر مناهج البحث هي تعريف بمفهوم البحث، ومنهج البحث، ومن ثم شرح إجراءاته، وأثناء إعداد بحوث التخرج، كثيراً ما يُخطىء الطلاب كتابة الأهداف والأهمية، فيشرح المشرف للطالب الفرق بينهما، حيث يبدأ بقاعدة هدف لكل سؤال أو فرض، فالسؤال البحثي “هل هناك أثر لتأهيل الأستاذ الجامعي في الصين في كفاءة الجامعات السودانية؟”، يمكن تحويله إلي هدف “التعرف على/ أو كشف أثر تأهيل الأساتذة الجامعيين في الصين في كفاءة الجامعات السودانية” أو أي صيغة قريبة من ذلك، ومهما تكن الإجابة دالة إحصائياً” أو “غير دالة إحصائياً”، يرتبط هدف البحث بنتائجه.
بينما تتشعب جوانب الأهمية، ومنها “حداثة الظاهرة” ظاهرة الابتعاث إلى الصين بدلاً من “بريطانيا أو أمريكا” التي أقتنع المجتمع السوداني بكفاءة تأهيلها، أو “انتشار ظاهرة” حيثُ تُعد الصين أكبر الدول التي يُبتعث إليها خريجو الجامعات لتأهيلهم إلى أساتذة جامعيين في السنين الأخيرة خارجياً”.
فعلي سبيل المثال، كلية التربية بجامعة الخرطوم أكثر من 70% من مساعدي التدريس والمحاضرين بها مُبتعثين إلى الصين لتأهيلهم أساتذة بالكلية، بل أن 25% ممن يتبوؤون وظائف إدارية عليا عامة يحملون درجات عليا من إحدى الجامعات الصينية”، أو “الوضع الاقتصادي والسياسي الراهن”، حيث الحاجة الماسة إلى كل دولار لحفظ التوازن الاقتصادي… الخ. وعليه، فإن أهمية البحث لا ترتبط بالنتائج، وإنما ترتبط بحقيقة الظاهرة في حد ذاتها، أو الظروف المجتمعية أو البيئية التي تنتشر أو تترعرع فيها.
على كل حال إن قضية التمييز بين أهداف البحث وأهمية البحث أمر يدركه طالب البكالوريوس بإكمال بحث التخرج، ونادراً أن يُخطىء طالب الماجستير التمييز بين المفهومين. لكن بالأمس القريب تأزمت إحدى الطالبات اللائي أشرف عليهن في خطة الدكتوراه، فبالرغم من صبر الطالبة عاماً ونيفاً على إجراءات التسجيل: من تقديم للقسم، وتقييم رسالة الماجستير، وتقديم إلكتروني، وسمنار، وتأخر مُناقشة خطة بحثها لـ “ثلاثة اجتماعات للجنة الاستشارية للبحث العلمي”، لأسباب واهية منها أن رئيس القسم لم يسلم النسخ للأعضاء في وقت كاف، انقطاع التيار الكهربائي في اثناء الاجتماع، وهكذا. لكن والحمد لله في آخر اجتماع جرت مناقشة خطة الطالبة التي من أحد ملاحظة اللجنة “بين هلالين” أن “أهمية البحث تحتاج إلى إعادة صياغة”، وما كان من الطالبة إلا تعديل الخطة وتسليمها إلى مكتب الدراسات العليا بالكلية لعرضها على مجلس البحث العلمي لإجازتها، ومن ثم تبدأ رحلة الإجراءات الخاصة بالشؤون المالية والإدارية. لكن مجرد ما خرجت من المكتب اتصل بها “سكرتير مجلس البحث العلمي” بين هلاليين، يطالبها بأن تعيد كتابة الأهمية على النحو الآتي: “قد تسهم هذه الدراسة من خلال نتائجها في: 1. إنتاج برامج تعليمية علاجية… 2. توفير أساليب نفسية ملائمة للتعامل مع تلاميذ صعوبة التعلم …الخ.” مما أربك الطالبة وأدخلها في حالة من الإحباط لدرجة اتصلت بي بوصفي المرشد لأنها غير مُقتنعة بهذه الصياغة، التي ستشوه أطروحتها في المستقبل، فطلبت منها أن تعمل بما ذكره السكرتير، لأنها تأخرت كثيراً، وأن اجتماع “مجلس البحث العلمي” سوف يكون في الأيام القليلة المقبلة، وأن سكرتير مجلس البحث العلمي “بين هلالين” ليس له علاقة بالبحث أو خطته، كما ليس له علاقة بلغة البحث أو صياغاته، الخ، فهو ليس مُشرفاً أو ممتحناً، هو “ما زال ولد صغير” يا دوب أستاذ مساعد لم يشرف على ماجستير حتى الآن”…. الخ. وإنما اهتمامه ينصب علي عرض تقارير رسالة على أعضاء المجلس.
رغم هذه التطمينات ما زالت الطالبة في حيرة من أمرها. ففكرتُ في تعديل استراتيجية خفض قلقها بطريقة أخرى، فذكرت لها “أن السكرتير أستاذ مجتهد وحاز على جائزة في تمييز البحث العلمي عندما كان يُحضر للدكتوراه في الصين”. فكلمة الصين نزلت عليها برداً وسلاماً، وشعرت بالتوازن النفسي، وكادت أن تقول “عشان كدة”، غير أن شعورها بالتوازن أثار في نفسي سؤالاً: “هل الجامعات الصينية كسائر المنتجات الصينية لها ثلاثة مستويات؟ “صينية”، و”صينية صينية”، و”صينية أصل الصين” تمنح طالبها جائزة تميز بحث علمي، ويخفق في التمييز بين أهداف البحث وأهميته؟”