غداة إعدام الشَّهيد محمود، ضحى الثَّامن عشر من يناير 1985م، جاءني صديقي الموسيقار المغنِّي أبو عركي البخيت، مُشوَّش الشَّعر، مُجعَّد الثَّوب، مُسهَّد الرُّوح، مورَّم العينين، مُحتقباً عوده الفصيح، وشفافيَّته الثَّوريَّة، وخياراته الباذخة، ورهاناته التي لا تخيب قط، وجلس في ركن الغرفة يُسمِعني، كما “زرقاء اليمامة”، نغماً ظلَّ عاكفاً عليه، كما قال، طوال ليلة البارحة، وقد تجافى جنباه، في سبيله، عن مضجعهما، وجافت عيناه الكرى وجافاهما.
ما كاد يُعمِل أنامله الرَّشيقة على الأوتار، صعوداً وهبوطاً، ويطلق لحنجرته الأسطوريَّة العنان، ويتوغَّل، بكلِّ ذرَّة إحساس من كيانه، في الأغنية الوعيد، الأغنية النُّبوءة، حتَّى أخذ الكون بأسره يستحيل، رويداً رويداً، إلى كرة من البللور، ويستحيل هو إلى كائن أثيري، وأستحيل أنا نفسي إلى شبكة من الاعصاب العارية المشدودة، إذ اقشعرَّ بدني، وقفَّ شَعر رأسي، وتحشَّدت دمدمة العواصف بين أضالعي، وهدير الرُّعود في أذنيَّ، ووجيب الجُّلجلة تحت قدميَّ، وإذا بكلمات الفيتوري التي كان نضَّدها قبل ذلك بما يناهز العشرين سنة كأنْ لم تولد إلا في تلك اللحظة، بل كأنْ لم تولد، أصلاً، إلا لأجل تلك اللحظة:
ـ “أرضُكَ ظمأى/ والخريفُ شَحَّ هذا العامْ/ والمتسوِّلونَ يزحفون، والأقزامْ/ يُعَربدونَ في حُطام المَملكةْ/ يا ملِكاً مُتَوَّجاً على حُطامْ/ يا قائِداً بغَيرِ مَعْرَكةْ/ هذا أوانُ المَعْرَكةْ”!
…………………………..
…………………………..
والرصاصة التي شقَّت قلب القرشيِّ مساء الحادي والعشرين من أكتوبر1964م لم تكن سوى قشَّة التَّاريخ التي قصمت ظهر بعير الطغمة النوفمبريَّة في ختام مشهد سنواتها السِّتِّ العجاف، فقد ظلَّ ظهرُ ذلك البعير ينوء، أصلاً، تحت الحمولة الثَّقيلة للانتهاكات الفادحة التي ما انفكت تترى تباعاً مذ أجهزت تلك الطغمة على الدِّيموقراطيَّة في يوم الشُّؤم السَّابع عشر من نوفمبر 1958م، فما احتاج ذلك الظهر لأكثر من تلك القشَّة، كي ينقصم نهائيَّاً في ملابسات تلك الصُّدفة الموضوعيَّة التَّاريخيَّة بالتَّحديد، مساء تلك “الأربعاء الرَّائعة” .. لا قبلها ولا بعدها! كان الأمر محتوماً ومقضيَّاً، ومع ذلك لم يكن بمستطاع أيٍّ من كان أن يحدِّد، على وجه الدِّقَّة واليقين، متى أو كيف يمكن أن يقع “الانفجار العظيم”!
بذات القدر يخطئ من يظنُّ أن ثمَّة سبباً واحداً أحداً لوقوع ذلك “البيغ بانغ” في أبريل 1985م، والذي تتوَّج بأكاليل نصر الجَّماهير المؤزَّر ساعة دكَّت سواعدها العارية عرش النِّميري صباح السَّادس الأغر، فيروح يفتش عن ذلك “السَّبب” المعرَّف بالألف واللام، تارة في فضيحة ترحيل اليهود الفلاشا الدَّاوية إلى إسرائيل، لقاء حفنة من دولارات الصَّهيونيَّة العالميَّة، وتارة أخرى في فوضى السِّياسات الاقتصاديَّة الطفيليَّة التي دفعت بملايين النَّاس إلى بيوت النمل ينبشونها بحثاً عمَّا يطفئ الجُّوع، ويسدُّ الرَّمق، وتارة ثالثة في فرض قوانين سبتمبر الشَّوهاء، ومحاكماتها الجَّائرة التي طالت، تحت مسمَّى “العدالة النَّاجزة”، قامات سياسيَّة سامقة، وقادة نقابيين أفذاذ، بل ومواطنين عاديين أبرياء، تحتوش إداناتهم الرِّيَب والشُّكوك، ومع ذلك قطعوهم من خلاف، وألهبوا ظهورهم بالسِّياط، وصادروا بيوتهم وأموالهم، وزجُّوا بهم في غيابات السجون، وفوق كلِّ هذا وذاك سحقوا إنسانيَّتهم، وداسوا على كرامتهم، ومُرِّغوا سمعتهم في الرغام، إذ لم تكن الصحف وأجهزة الاعلام المسموع والمرئي تتورَّع عن استباحة أسمائهم، ورميهم بالباطل، والتَّقوُّل عليهم، صباح مساء!
لكن يخطئ أيضاً مَن لا يبصر شيئاً مِن جدل السَّببيَّة causation بين حدث الانتفاضة المجيدة ذاك وبين كلِّ تلك الحادثات، وأكثرها مأساويَّة إقدام ذلك النِّظام المتهرِّئ على إعدام الشَّهيد محمود، حيث قدِّر، لا للسُّودان فحسب، بل وللعالم بأسره، أن يبصر، في ذلك الضُّحى الكئيب، مشهد الشَّيخ السَّبعيني يعتلي مشنقته بالخطو الواثق، وبالرُّوح المطمئن، وبالنفس الرَّاضية المرضيَّة، وبابتسامة الفداء الصَّريحة تكسو محيَّاه الوضئ، لتخلد، مرَّة وللأبد، في ضمير الشَّعب، وفي ذاكرته الجَّمعيَّة، وفي وجدان المبدعين الثَّوريِّين، مع غيرها من وقائع قطع الأرزاق، بل وقطع الأعناق، فضلاً عن جحد الحقوق، وإهدار الحريَّات، ونهب الأقوات، وإشاعة الفساد، وانتهاج القمع، والتَّنكيل بالمعارضين، والتَّشريد من الخدمة، والمساس باستقلال القضاء، ومفاقمة الحرب الأهليَّة، وتهميش تكوينات الأطراف القوميَّة، وما إلى ذلك من “أسباب” كانت تلهب وجيب الجُلجلة، حتى بلغت مراكمتها الكميَّة حدَّاً أصبح فيه وقوع أيِّ “سبب” إضافي بمثابة القشَّة التي ستقصم ظهر البعير، حتماً. وبالفعل ما كاد يقع حتى زلزلت أرض السُّودان زلزالها، وأخرجت في أفق الفعل الثَّوريِّ أثفالها، لتلفظ النِّميري ورهطه إلى مزبلة التَّاريخ .. مرَّة وللأبد!
وأكتوبر وأبريل، من قبل ومن بعد، شكل متميِّز من أشكال الممارسة الدِّيموقراطيَّة، مثله، في ذلك، مثل فعل “الانتخاب” و”الاستفتاء”، سواء بسواء، حالة توفَّر في هذين شرط النَّزاهة والشَّفَّافية، فقد أتاح ذانك لـ “الأغلبيَّة” ما يتيح لها هذان، أن تعبِّر عن إرادتها على أتمِّ وجه من التَّحضُّر. سوى أن أيَّاً من ذينك لم يكن محض “عقد قران” يبدأ في ساعة بعينها، لينقضي في ميقات معلوم، فيملك الدَّاعون له أن يحدِّدوا موعده، أو يؤجلوه، أو يلغوه بالمرَّة!
أكتوبر وأبريل أقصى فعل العبقريَّة الشَّعبيَّة، ومنتهى حراكاتها العفويَّة التي لا تنفجر، حين تنفجر، على باطل، أبداً! ولقد أثبتت هذه العبقريَّة مضاء سدادها في بلادنا مرَّتين، خلال ما لا يربو كثيراً على العقدين من الزَّمن، وأمام أعيننا هذي التي سيأكلها الدود يوماً!
وأكتوبر وأبريل، في الحقيقة، لم يقعا، فقط، في أكتوبر وأبريل، وإنَّما ظلَّا يقعان، دائماً، طوال سنوات نوفمبر السِّتِّ، وسنوات مايو السِّتَّة عشر! فعلا ذلك بما يكفي ويزيد للفت نظر كلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، بل ولإيقاظ كلِّ سادر في غِيِّه، لو كان يسمع أو يعقل، ولتنبيه كلِّ من يحسب نفسه، في غفلة الوهم، استثناءً لا يُقاس عليه، ولا هو ينقاس على سواه!
…………………………..
…………………………..
كان أكتوبر وأبريل “حَتْماً”، إذن، رغم أنف شانئي الأيديولوجيا! و”الحَتْمُ” إنما يُدرَك بالقراءة المستبصرة لمنطق التَّاريخ، وجدله الرَّاجح، لا بطيلسانات “السِّياسة السِّياسويَّة”، بالمصطلح الفرنسي، ولا بحسابات ميتافيزيقياها الخائبة التي لا تتأسَّس إلا على “قراءة الفناجيل” الفكريَّة، و”ضرب الرَّمل” السِّياسي! وأوَّل مُدرَك من هذا “الحَتْم” أن حراك التَّغيير لا يُتعمَّل، ولا يُصطنع من العدم. ولأن ذلك كذلك، فإن غاية عمل حُداته هو تعهُّد وعيه العام بالسُّقيا في صبر، ومواصلة رفده بعناصر استنارته في دأب، وهو ما يمكن أن يقع في جيل، جيلين، أو أكثر، فضلاً عن رصد “أمزجة” الجَّماهير بما يفوق “مقياس رختر” دِّقة وصرامة، في طقس إصغاء عميق لوجيب الجُلجلة، حتى لا ينحرف سهم التَّغيير عن الجَّادَّة، أو يميل عن الهدف، بينما النَّاس في ضلال أهل بيزنطة يعمهون، ليمسي المآل وبالاً، وتنقلب النعمة، بالنتيجة، إلى نقمة، فما أكثر ما انقلبت آمال الَّتغيير التي أسئ التَّعاطي معها، أو تركت لتنمو، كالسَّلعلع، وحدها في حقل “العفويَّة” السَّاذجة، إلى هرج لا حدَّ له في الجُّغرافيا، ومآس لا عدَّ لها في التَّاريخ!
أما الحكَّام الحصفاء، مِمَّن حباهم الله نعمة البصر النَّافذ، والبصيرة الحديدة، ولم يكن عبود والنِّميري ورهطاهما مِمَّن أوتوا من تلك الحظوظ شيئاً، فإن غاية ما ينبغي أن يضعوه نصب أعينهم من عِبَر التَّاريخ، ودروسه الكبيرة، هو تعظيم شعيرة الانتباه إلى ما يمكن أن تفضي إليه مراكمة الوجيب المتواتر للجُّلجلة، وإن اتَّسمت بالبطء، في مبتداها، أو بالخفوت، أوَّل الأمر، فيحرصون، الحرص كله، على اتقائها ولو بـ “شقِّ تمرة” من “العدل” يجعلونها في أساس “مُلكهم” .. وكفى بذلك رشداً سلطانيَّاً!
…………………………..
…………………………..
اللهم فاشهد ..
وسلام في الخالدين على “أكتوبر” و”أبريل”، وشهدائهما، وشهداء الحراكات الجَّماهيريَّة أجمعها!
kgizouli@gmail.com