المكان : شجرة لبخ عملاقة تبسط أفرعها و أوراقها .. كراحات أيدي منبسطة الأكف تكاد لا تري من كثافتها من تسامروا تحت حرمها من رفاق الأمس .. ومن من أبناء الثورات لا يعرف تلك ” اللبخة” الشهيرة ذات الموقع الاستراتيجي المطل علي ميدان رابطة الوادي الشهر في قلب الثورة الحارة العاشرة – أمدرمان .. تلك الساحة الشعبية التي شكلت قلب الحراك الرياضي والثقافي والمجتمعي في “أمدرمان ما وراء أحمد شرفي” .. حتي أطلق عليها البعض ” كرملين ” الثورات !
الزمان : ليلة صيفية شديدة الحرارة في منتصف يوليو القائظ .. و إن إتسمت بسماء صافية فلازال في دهاليز الذاكرة بعض بقايا من ذكريات ” كتاحة” إنقضت لتوها .. عصفت اعاصيرها بـ” أُمية” شارع وادي سيدنا العريقة قبالة كشك الفنان محمد احمد عوض بالثورة الحارة السادسة .. فأحالت مساءات ثورات امدرمان بأكملها الي ليل حالك الظلمة.. عبثاً حاول العم “جبادة” في فناء ” دكانه” .. تبديده .. بضوء ” رتينة ” خافت .. تبعثرت أشعتها الخجولة في ارجاء المكان من غير انتظام .. في مشهد يحاكي ابيات قصيدة الشاعر الامدرماني الراحل صلاح احمد ابراهيم حين وصف منظر النيل بليلة مشابهة الظلمة في رائعته ” الطير المهاجر ” .. :
وتلقي فيها النيل بيلمع في الظلام ..
زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام!
وبينما كنت غارقاً في الأماني الكذوبة بعودة التيار الكهربائي قبل انقضاء ذات المساء .. كان صوت “رادي ” العم محمدين يرسل عبر أثيره موسيقي نشرة الساعة العاشرة الإخبارية من إذاعة امدرمان .. ذلك طقس ظل يمارسه عم محمدين منذ كنا صبية ايفاع .. وهو يرفل في ثوب ” عراقيه” الباذخ .. جالساً علي كرسيه “الخيزراني” المهترئ امام باحة منزله المطل علي الميدان وقبالته ذات الراديو المستطيل الشكل ” ابو بطاريتين” من ماركة توشيبا العتيقة .. هو يمارس هوايته القديمة في التنقل بين الـ”بي بي سي و مونت كارلو” في رحلة قصيرة تنتهي دوماً وأبداً بدقات نشرة العاشرة بهنا امدرمان .. بكل دفئها وتحنانها .. وكأن امدرمان تخاطبه بسخرية المنتصر .. برائعة السر دوليب و دندنات عثمان حسين :
بترجع لي تاني وتسأل عن مكاني ..
تجدني زي ما كنت وزايد في حناني !
لا أدري كيف انتهت النشرة سريعاً قبل أن أنتبه الي ذلك النقاش المحتدم وانا أتوسط أصدقائي المتسامرين تحت اللبخة العملاقة .. والذي إبتدره احدهم بلهجة لا تخلو مفرداتها من التعالي المعرفي علي الاخرين : “ام درمان لم تعد ام درمان التي نعرف يا صديقي .. لقد تغير كل شئ حتي صرنا لا نعرف في اي مدينة نحن ” !
هكذا ألقي صديقي ” درابه” المعتاد قبل ان يقاطعه جاري في تلك الجلسة القرفصائية .. بصوت فيه شئ من التحدي :
” الشئ الوحيد الذي لم يتغير هو عمك محمدين .. حتي العجلة الفونكس حلت محلها الركشة “..
الفونكس؟؟ … اييييييه يا صديقي اي شجون أثرتها فيني ؟ !
تداعي الي ذاكرتي بلا إبطاء مشهد سرب من العجلات الفونكس “الظهرية” اللون وقد تراصت في زهو وخيلاء امام دكان العم الطيب خوجلي بسوق امدرمان في صفين متناسقين من مقاسي ٢٦ و ٢٨ .. كانت ترمقهما نظراتنا ونحن أطفال في طريقنا مشياً علي الأقدام من المحطة الوسطي للمدرسة الابتدائية بحي المسالمة .. اييييه يا صديقي ما بالك لا تدعني دون أن أذكر “ايام صفانا” .. هل يا تري اطلع الرائع محمد بشير عتيق.. من وراء حجب .. علي تلك الرصة الفونكسية.. والتي يعتمل إتساقها في المهج والارواح وكأنها ” عاملة مزيكة قرب “.. ” ومن أهازيج فنها تسمعنا الف وألف أسطوانة ” .. هل كان عتيق يتحدث عن تلك “الرصة” ونحن نختلس النظرات اليها .. حين قال :
رافلة بأثواب عفاف ..
زي عرائس يوم زفاف ..
والنجوم بعيون تسارق بإشتياق
تنظرنا من خلف الستار..
علي العموم كانت أقصي أمانينا الخضر في ذلك الزمن الجميل هو أن تعتلي صهوة فونكس صهباء .. مزينة ومكسوة “بأشرطة ” حمراء وصفراء إن كنت مريخي الهوي وتعرف جيداً معني هتاف المدرجات الحمراء الشهير.. المقترن بتلك الترنيمة الثلاثية المميزة علي ايام مريخ مانديلا .. ” سكسك وباكمبا .. ابوعنجة “.. ” سكسك وباكمبا.. ابوعنجة” او قل – إن شئت – اشرطة زرقاء وبيضاء.. إن كنت تحفظ بالمقابل هتاف المساطب الهلالية المعروف ” اوووو تنقا .. تنقا .. تنقا.. تنقاااا ” .. ولا بأس من أن تستثني ذلك ” المنفاخ” في أسفل المثلث المكون لهيكل العجلة.. من هذا الصخب الإنتمائي الصارخ .. في إعلان غير مدفوع الثمن عن مقدرتك علي مقارعة مسامير الطريق بلا خوف ولا وجل.. مما يغريك أن “تتضرع” في أزقة الحلة و أنت قايم ” سداري” .. تتحدي الظلام بالنور المنبعث من دينامو العجلة الأمامي الذي لا يتسرب الي نفسك شك بأن له من البرق والبريق ما هو كفيلٌ بأن يضمن لك رحلة عودة امنة من درس “العصر” حتي و إن أناخ الليل بكلكله !
ولا مندوحة من ان يجرفك احساس الشجن “الفونكسي” الزائف ليحملك.. علي ترديد رائعة البلابل وانت علي مشارف ” الحلة “.. وكأنك تخاطب محبوبة ما .. في مكان ما .. في زمان ما .. قادم .. بكل أشجانه وصباباته :
بتعرف اني من اجلك مشيت سنين .. وسنين
مشيت في الليل .. علي الكلمات ودمع العين
ايييييه يا رفيقي … بعد كل هذه السنوات .. يؤسفني أن أخبرك بأننا جيل الفونكس الذي تقزمت أحلامه وإنكمشت .. تماماً كما إنكمشت الفونكس نفسها وتحولت برمزيتها اليوم الي مجرد ” بدّال ” يستخدم “لتكسير ألواح التلج ” في واحدة من تلك الأكشاك المتناثرة علي قارعة الطريق.. حتي صار ذلك العنوان الابرز لأيامنا هذه التي تميزت بإنقطاع ثلاثية .. الأمل .. والماء .. والكهرباء !
ولكن علي ذكر الكهرباء .. ما زال التيار الكهربائي غائباً وعودته مؤجلة.. ومؤجلة معها أيضاً كل مشاريع الفرح القادم علي شاكلة الإستحمام بماء الدش الذي يَجُب ما قبله من الروائح ” المنعشة” لأجسادٍ تصببت عرقاً و أضناها رهق الانتظار.. تلك كانت ومازالت واحدة من الأمنيات الغوالي المترفات .. التي قال عنها صلاح حاج سعيد في رائعة الراحل مصطفي سيداحمد ..” لا منك ابتدت الظروف .. ولا بيك انتهت الأماني المترفة” ! .. غير ان قضية ” الموية” نفسها لا تنفصل عن قضية الكهرباء بأي حال من الأحوال فان غابت الكهرباء .. كانت الموية- كالسماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا – وها هي ” حنفية الوضاية” تصدر صفيراً أشبه بقصة حسن والصفارة في كتاب المطالعة الابتدائية .. او إن شئت قل شخيرا أشبه بشخير ذلك الطالب الصيني الذي أوثق ضفائر شعره بحبل في سقف الغرفة حتي لا ينال منه التعب والإجهاد فيسقط وينام علي الطاولة وهو يذاكر لامتحاناته.. ما بال كتاب المطالعة الابتدائية لا يدعنا وشأننا ! ولكن حسماً لهذا الجدل .. إن كنت في شكٍ من الوشائج الأزلية بين ” الموية ” و الكهرباء فعليك بكلمات شاعرنا فضل الله محمد الممزوجة بموسيقي ابواللمين الساحرة :
ديل قلبين ضماهم غرام
اتنين دنياهم سلام
محال بيناتهم يحصل خصام
وبينما انا في ذلك البحر اللجي من الخواطر المتلاطمة .. اذا بي أفاجأ بصيحات رفاقي من جلساء اللبخة التي ابتدرها احد أصدقائي بصوت يحاكي فرحة ” شافع” من ” شفع” الروضة بقطعة ” حلاوة قطن” .. حين قال :
(جاااااااات .. جاااات .. الكهربا … جاااات ) ..
فصار كل من تحت اللبخة بقدرة قادرة تماماً كلاعبي الهلال حينما سجل الراحل والي الدين هدفه الحاسم في شباك الهلال السعودي علي مشارف الدقيقة ٩٠ من زمن المباراة.. التي دارت رحاها في تسعينات القرن المنصرم .. فإنتفض الشباب .. وهم يتقافزون في الهواء من شدة الفرح .. وأقبل بعضهم علي بعض يتعانقون عناقاً حاراً صادقاً .. واختلط الحابل بالنابل حتي تداعي عمك “جبادة ” من دكانه وعم “محمدين” بعراقيه البديع.. مع ثلة من المارة والسابلة.. الي ذلك المهرجان التلقائي يشاركون الجميع روعة اللحظة .. وفي خضم تلك الفوضي الخلاقة .. إنصرفت وانا ” اشاقق” الميدان دون أن يشعر بإنسحابي أحد تطاردني زغاريد النسوة المغتبطة من بيوت الحلة وهمهمت في نفسي .. في زمان الزيف الموغل في الحيف والتزييف هذا .. نسينا طعم الفرح ومفرداته فصرنا نفرح بأبسط الأشياء ولا ادري في تلك اللحظة لماذا مر علي طيف الاستاذ الطيب عبدالله ونقرشاته علي العود وهو يستجدي الفرح الغائب دوما عن دنيانا بكلمات شاعرنا عبدالله محمد سليمان :
عود لينا يا ليل الفرح
داوي القليب الأنجرح
قول ليهو يفرح مرة يوم
طول عمره ناسيه الفرح
لعل وعسي في أيامنا القادمات بعض من ذلك الفرح الذي لم نحياه بعد !!