في حياة كل منا أخ لم تلده أمه، اخ يشبه الشقيق أو يشبه الذات لا فرق. وحمد الزناري زميل وصديق وأخ وحبيب فوق العادة، وفي كل مراحل حياتي.
التقينا وحمد في صف واحد، وجلسنا على غير ترتيب بجوار بَعضنا، كان ذلك في العام الأكاديمي 1981م، وأمضينا شهرين في الجامعة، ثم وجدنا أسماءنا في قائمة مرشحي اتحاد الطلاب، ثم أعضاء في المكتب التنفيذي لرابطة كردفان بالجامعة، ثم جمع بيننا حب قراءة التراث، والاحتفاء بالدراسات النقدية والترجمة.
أحببنا عبد الرحمن الأبنودي، واعتصرنا مشاعر البهجة من نصوصه، وتغريبة بني هلال، وشعره العذ،ب وقرانا جان جاك روسو وديدرو وفولتير وبرتراند رسل وإيمانويل كانت وجورج أورويل، وتناقشنا في كتابات إبراهيم إسحاق، وفي صاحب (يوم موتي)، وعالم عباس وَعَبَد الله الطيب والطيب صالح، ووجدنا الطريق السهل للمعرفة عند أستاذنا الدكتور حسن عباس صبحي، فتعلقنا في فضاءاته، وحفظنا أشعاره، وحاول حمد ترجمتها، وبخاصة قصيدته الشهيرة التي تغني بها الكابلي (ماذا يكون حبيبتي ماذا يكون؟) .
ثم كان حمد يحفظ شعر شيلي وويليام وريث وريرث، ومثل النوارس كان لا يتحرج يسبح بِنَا في عوالم ما ورائية كان يسميها (فروم دا سي كيم هي) من البحر يخرج، كان يعرف حبكات شعر آدامز واديسون، وروايات دينكنز وجيمس جوييز وروايات خالدات مثل وويمن ان وايت وجين اير.
وفي السياسة كنّا وما زلنا نرى التقدم الفكري في السودان يعتمد على عطاء مفكرين كبار وكتابات تنويرية، ككتب الجابري والطرح العقلاني لكتاب سودانيين قائمتهم تطول، ولكن يأتي الصادق المهدي على رأسها، فهو الذي تناول كل شيء تقريباً عن العلم والدين والرياضة والفن، ومن قراءات كثيرة تبدى لي وقد خلصنا الى ان الفكر يسبق السياسة ويقودها، وليس العكس، فقي البدء الفكر، ولكن ليس أي فكر.
امتهن حمد الترجمة، وهي مهنة صعبة، وأحياناً خطرة، فالمترجم يطّلع على ما لا يجب إفشاؤه، وفي كثير من الأحيان يكون في اجتماعات واسرار سوقية، وفي العمل، وهو في الإدارة العليا ناقل لأسرار أصحاب العمل، ومحاضر الاجتماعات، وعلى المترجم أن يكتم ما عرف، ويتجاوز عن أي سوْال وأي تأويل قد يفهم منه نقل معلومة سمعها أو كتبها أو طلب إليه أن يترجمها.
بعد إسهامه المشرف في انتفاضة إبريل رجب عمل حمد الزناري مع الكبار من قامة بكري عديل، فكان كاتماً لأسرارهم، وكان الصِّلة بينهم وبسطاء الناس، وكان على وعي بين ذلك التقاطع الجميل بين التغير السياسي والتغيير الفكري، فقد تغيير نظام السفّاح نميري، ولكن الفكر التوتاليتاري كامن كمرض ينتظر لحظة نقص مناعة الجسم السوداني وهو ما حدث في يونيو ١٩٨٩م، حين أجهزت بقايا نظام السفّاح على النظام الديمقراطي فالزناري صاحب تجربة، وكنز خبرات، وصلات، وأسرار وخاصة عن هذه الفترة.
وخلال وجود حمد في القطاع العام السوداني خدم الناس بما استطاع. قال لي قريبي مولانا حامد محمد أحمد: “إن حمد أدخلني للوزراء ليصدقوا له بمدارس صارت مراكز إشعاع اليوم”.
وخلال وجوده في المهجر كانت الغربة امتداداً لسيرته ومسيرته في السياسة والتهذيب والتواصل والثبات على المبدأ. ساهم في تثبيت مبدأ المؤسسية، وتعزيز الدور المحوري للقيادة التاريخيه، لا عجب أن بادله الأحباب حباً ووفاءً، فهو صار يرمز للثبات والاتصال بالمعاني الأولى للأنصارية، ومفهوم المحبة والإخاء واليوم يرافقه في عودته الطوعيه للسودان رئيس دائرة المهجر الحبيب القاسم محمد إبراهيم نيابة عن المهجريين، ورغم مرور عقدين على اغتراب الزناري الا انه سيجد حاجزاً غير مرئي ما يزال يفصل بين الشعب والنظام الذي أجهز على الديمقراطية، ويزداد الحاجز بقدر ما تتمدد الأزمات، فالعودة أكثر نضالاً، وأقسى من الاغتراب.
التحية للحبيب حمد هو يستدعي هذه السطور من دفاتر الزمن الجميل.