كنا بعد التاسعة ليلا، في مكتب رئيس التحرير- أنا وتيتاوي ومرتضى الغالي وعبد القادر حافظ.
كانت أخبار ذلك اليوم، بين عيني الأستاذ حسن ساتي. إنه وقت وضع “المانشيت”، والخطوط الرئيسية، للصفحة الأولى.
أجاز ساتي الأخبار.
ناولها لعبدالقادر حافظ – رئيس قسم الاخبار- وهو يقول لتيتاوي: أستاذ تيتاوي، باشر مهامك من بكره، كرئيس للتحرير.
– مسافر وللا إيه؟
والله، سفرة يومين، مع “الريس” الى أسوان لمقابلة الرئيس مبارك!
في تلك اللحظة- بالتحديد- تهلل وجهي، والتمعت في ذهني فكرة إخراج حواري، مع سر الختم، من الدرج، لتمشي به “الأيام” بين عيون القراء، قبل أن يعود رئيس التحرير، من أسوان!
في صباح اليوم التالي، دخلت على الأستاذ تيتاوي، رئيس التحرير بالوكالة، وهو في مكتب الاستاذ حسن، وفي يدي “أبو الصحب”: الحوار الذي كنت أنفض عنه الغبار، من وقت لآخر، أربتُ على كتفه، وأطمئنه: إنتظر .. ليك يوم!
– يا أستاذ تيتاوي، دا حوار مطول، مع الأستاذ سر الختم الخليفة، “مستشار نميري للتعليم العالي”.
كررت ما بين القوسين، مرتين، وأنا أضغطُ على كل كلمة، لأعطي الأستاذ تيتاوي انطباع أن الحوار “ما فيه حاجة”!
لستُ أدري، ما إذا كان هو، قد أخذ ذلك الانطباع، أم أخذ انطباعا آخر.
كل ما أدريه إنه قبل أن يتناول الحوار. سألني : الحوار عن التعليم!
– لا لا يا أستاذ، عن ثورة أكتوبر.
مرر تيتاوي عينيه في الصفحة الأولى، وإبتسم، لا كما يبتسم حسن ساتي، بعينيه “اللتين أكلهما نمتي العفاض”، وإنما إبتسم، مثل أي دنقلاوي “ضارب ملوحة” بالليل، قبل أن يجيئني صوته “الهلالابي موت”.
– الليلة، يوم كم؟
– الليلة، يوم 19
– طيب، خلاص، ننشر الحوار يوم 21 أكتوبر.
في تلك اللحظة، تخيلت حسن ساتي يجي ناطي في (الأيام) بكره، من أسوان، بعينيه اللتين، لم تنبسا لعيني ببنت نظرة، قبل عام، حين كان يقول لي عن الحوار، أن مكانه ليس جريدة الأيام!
“حكيت” مخي، سريعا جدا، قبل أن أقول لأستاذ تيتاوي:
– تعرف يا أستاذ وأنا أمبارح، طالع من مكتب سرالختم، بعد الحوار، صادفت ناس جريدة الصحافة- فيصل محمد صالح وراجي- داخلين عليهو .. وعشان نحنا نكتل الدش في يد الصحافة، حقو ننشر الحوار، بكره!
لم ينظر تيتاوي في عينىّ، وأنا أقولُ ما أقول. لو نظر لكان إذن قد “شاف” جفني الإثنين، يرتعشان! فقط التمعت عيناهُ، في تلك اللحظة، ب نشوة ما يسمى “السبق الصحفي”، أمسك قلمه وكتب للنشر بكره، ووضع تحت كلمة بكره خطين كبيرين!
في تلك اللحظة تأكدتُ- تماما- أن الأستاذ ساتي، حين سلم مهام رئاسة التحرير، لتيتاوي، نسي أن يسلمه معها “تعليمات ممنوع من النشر”، التعليمات التي تأتي سرا من فوق، وتحيلُ أي رئيس تحرير- في النهاية- إلى “رقيب” بدون شرائط!
في “العصرية”، جلست إلى المصمم الفنان، زين العابدين أحمد محمود، و “ظبطنا” الحوار، بخطوطه، وصوره، في صفحتي النص.
وفي صبيحة اليوم التالي، خرجت الأيام بـ “حوار الخطر”، مع رئيس وزراء حكومة أكتوبر 64، وفي صدر الصفحة الأولى، من الصفحتين، الصورة التاريخية لمظاهرة “إلى القصر حتى النصر”!
الإذاعة “ما صدقت”، أو ربما أنها افتكرت “المسألة فكوها”، ففكت في ذلك الصباح، أناشيد أكتوبر، و”انبهلت” أصوات ود اللمين، وأم بلينة السنوسي، وعثمان مصطفى، وخليل إسماعيل:
“ولسه بنقسم يا أكتوبر..
لما يطل في فجرنا ظالم..
نرفع راية الثورة نقاوم..
نقاوم”
وارتفع صوت وردي:
“كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل،
كان مع الصبر والأحزان يحيا،
صامدا، منتظرا، حتى إذا الصبح أطل،
أشعل التاريخ نارا وإشتعل”.
و…. اشتعلت الثورة من جديد، في ذلك اليوم، في ذاكرة أعصاب ثوار أكتوبر، “صناع المجد”!
في النهار، وفيما كنتُ في بوكسي “الأيام”، جوار السائق “شاقين” السوق العربي، فاجأني صوت “مشلخ تلاتة”، ينادي باسمي. ارتفع الصوت، مرتين، مع أكياس النايلون المتطايرة، يزاحم رائحة السرتية، والكزبرة، والهدوم التي هدتها الشمش، يزاحم عرق التشاشة، والشرامة، والشماشة، وأصوات الباعة، وعصلجة التعاشيق، “الخاتية الزيت”.
التفت ..
– هاشم كرار .. عافي منك دنيا وأخرى!
كان صاحب الصوت، المشلخ تلاتة، هو النقابي العتيد الحاج عبدالرحمن، رجل “أتبرا” الحديد والنار، والذي كان في أيام أكتوبر 64، قد حرك قطار عطبرة الشهير إلى الخرطوم، محشوا بثوار “الأوبرولات” الزيتا طالع!
وفي مساء 21 أكتوبر، عاد النميري من أسوان، كانت الإذاعة والتلفزيون لا يزالان يبثان أناشيد أكتوبر.
دخل حسن ساتي “الأيام”، وأول ما رآني، ابتسم، لا كما كان يبتسمُ تيتاوي، في ذلك اليوم، قبل أن يقول لي: سرقت السيرباك، وأشعلت المساطب، والمقصورة.. قونك رايع، لكن قول لي، رجل الخط كان وين؟!
بالطبع، قلت له شيئا، وأنا اضحك، لكن ما لم أقله له، على الإطلاق، إن الصحيفة الناجحة، هي التي يغيب عنها…. رئيس التحرير!
حوار الخطر! (1)