تواصل تجارب الشعوب وتفاعلها ، اشتراكها في العام وانفرادها بالخاص ، هو القانون التاريخي الذي يجعل من تلك التجارب حالات إنسانية عامة ، تتجلي في الخاص منها الموروث المحلي لكل شعب وعبقريته وبالتالي إسهامه المتميز في الحالة الانسانية العامة .. فمن المهاتما غاندي ، مبتدع صيغة (العصيان المدني) التي قصد منها مقاطعة بضائع بريطانيا ومرافقها وخدماتها في الهند كجزء من مقاومة الاستعمار البريطاني ، الي شعب السودان الذي استعملها بصيغة اشمل في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية بعد رحيل المستعمر المباشر ، نجد التاكيد علي هذه العبارة ..
اقول هذا ونحن نستحضر ذكري ودروس ثورة شعبنا ضد النظام العسكري الاول في ٢١ اكتوبر ١٩٦٤ التي امتدت اثارها السياسية والثقافية والفنية حتي الان ، والتي يهمنا منها في هذه الوقفة القصيرة سلاحها (العصيان المدني) ، السلاح الجبار الذي استطال في وعي السودانيين وأفئدتهم ليبرز مرةً اخري في مارس/ابريل ١٩٨٥ فيبقي سلاحاً مجرباً وتجربةً سودانيةً ، بقدر إنسانيتها ، مطروحةً امام شعوب العالم الثالث وجيوشها وطلائعها الوطنية :
• كيف يمكن لشعب اعزل بسيط ان يفرض التنحي علي نظام عسكري يستند علي قوي الأمن والجيش والشرطة وترسانة من الأسلحة والأجهزة الحديثة ؟
• وهل هذا (العصيان المدني) اداة سحرية يمسك بها الشعب فجاةً عند الضيق ليقول للنظام الدكتاتوري ارحل فيرحل ؟
مناقشة وتأمل مثل هذه التساؤلات ، استناداً علي تجربتي اكتوبر ١٩٦٤ ومارس/ابريل ١٩٨٥ ، تقودنا الي استنتاج عوامل أساسية تجعل من (العصيان المدني) سلاحاً نافذاً :
– انه يأتي عندما تتعقد أزمات النظام وتتفاقم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً باشتداد عزلته عن الشعب ..
– انه يأتي بعد تراكمات نضالية متعددة ومتنوعة من تضحيات الشعب سواء بصبره علي سوء الأحوال المعاشية والسياسية والوطنية والحقوقية او بنكاته وهباته ومظاهراته التي يقدم فيها ابناءه للاستشهاد وللمعتقلات وأقبية التعذيب الرهيبة ..
– انه يأتي في إطار انتفاضة شعبية عامة في وجه النظام ، مقترناً بالإضراب عن العمل إضراباً سياسياً وليس فقط إضراباً مطلبياً يتعلق بحقوق الفئة المعينة ومطالبها حول الأجور وشروط العمل ..الخ ، اي ان يكون الإضراب سياسياً يستهدف تغيير النظام بإسقاطه كطريق وحيد لتامين المطالب الفئوية والشعبية والوطنية العامة ..
– ويبرز (العصيان المدني) كسلاح حاسم في معركة الشعب مع النظام عندما تتكامل وحدة جماهير الشعب وإرادتها المتجهة لاسقاط الدكتاتورية المستبدة عبر منظماتها وقواها ..
– وهذه الوحدة الشعبية لها جانب هام ومؤثر يجنب الشعب اراقة الكثير جداً من دماء ابنائه وهو تلاحم القوات النظامية المسلحة في الجيش والشرطة مع الجماهير الشعبية .. ففي ظروف تصاعد الانتفاضة الشعبية وبروز سلاح الإضراب السياسي والعصيان المدني تنحاز القوات المسلحة الي جانب الشعب وتحسم المعركة مع النظام باقل خسائر ممكنة في ابنائها ، وهذه ميزة سودانية هامة تعود الي ان أفراد القوات السودانية المسلحة في معظمهم ينحدرون من الأوساط الشعبية الكادحة علي العكس من غالبية جيوش العالم الثالث والمنطقة من ضمنها .. وهذا الانحدار الطبقي المحدد يجعل ابناء القوات المسلحة علي اتصال وثيق ومعايشة صميمة لهموم الشعب وأمانيه وتطلعاته … هذا الجانب ، ضمن عوامل تكوين ونجاح الانتفاضة الشعبية ، جانب هام وحيوي ، وهو من الجوانب التي ينفرد بها شعب السودان وجيشه حتي الان يقدمها لكل الشعوب المقهورة المكتوية بالأنظمة الدكتاتورية ضمن التجربة كلها : تجربة العصيان المدني والإضراب السياسي والانتفاضة الشعبية الشاملة ..
يبقي ان هناك فرق كبير بين نجاح الجماهير وسلاحها (العصيان المدني) في إسقاط النظام الدكتاتوري وبين نجاح الثورة وانتصارها .. الردة والانتكاسة دائماً ما تكمنان في الظروف الذاتية للانتفاضة الشعبية التي تتيح لها ان تتصاعد وتتحول الي ثورة بالفعل الذي يجسد شعارات واهداف تلك الانتفاضة في إنجازات عملية مستمرة النمو والاتساع ..