كنت متجهاً لقلب الخرطوم عبر حافلة صعد عليها في محطة تالية أخ عزيز طال التقاؤنا فتسالمنا، وجالسني ملاصقا يسأل عن عدم ظهوري في الآونة الأخيرة، فأوضحت له سفري للبلد مرتين تباعا في عزاء عمنا الحاج أحمد بدري، ثم تأبين ابن عمنا سنهوري صلاح الذي قدمت له قبسا من وهج تفاعلاته الإنسانية الرائعة فترحم عليه.
في ضوء ذلك سرد لي حكاية عجيبة .. ماذا قال؟
بدأها بأنه قضى شهر رمضان في مدينة أسوان قبل عامين، وأنه كان مواظبا على أداء الصلوات في جامع قريب لسكنه، وأن الإمام في إحدى المرات استبقاهم بعد الفراغ من الصلاة، وقص عليهم أنه تناول الفطور الليلة الفائتة مع خالته في إحدى ضواحي أسوان، وأنه حاول الانصراف بعده غير أن خالته استمسكت به فكلف المؤذن بمهمة المسجد، وواصل مجالستها وأسرتها ومسامرتهم حتى وقت متأخر، ثم خف عائداً إلى المسجد الذي وجده فارغاً إلا من مصل وحيد يطيل صلاته باستغراق ثم ينهمك في دعاء خاشع متصل.
مضى الإمام في سرده بأنه اتجه إلى المصلي محييا’ سائلاً عنه بعد أن لاحظ أنه غريب وليس من أهل الحي ومرتادي المسجد فرد الغريب بالإيجاب’ موضحا أنه جاء أسوان من قرية بعيدة رفقة زوجته المريضة، فقرر الأطباء إجراء عملية جرحية عاجلة لها تكلف ٢١ ألفا و٦٠٠ جنيه وأنه ليس له صديق أو قريب بوسعه التكفل بالمبلغ الكبير، فقرر اللجوء إلى الله في بيته سائلاً إياه فك ضائقته ذاكراً أنه عاكف على الصلاة منذ التراويح. وقال الإمام إنه طيب خاطر الغريب بأن باب الرحمة واسع.
مضى الإمام في قصته بأنه والغريب استمرا راكعين ساجدين حتى أدركهما الناس بحلول صلاة الصبح حيث أم بالناس ثم جلس يسبح ويدعو.
قال إنه لاحظ خلال جلوسه وجود صديق له في الصف الأول الذي لا يختلف إلى مسجدهم إلا نادراً لوجود مسجد أقرب له.
تابع بأنه سلم على صديقه الذي كان يلاصق الغريب في الصف الأول فسأله عما جاء به فأجاب صديقه بأن ثرياً يثق به يأتي له بين فترة وأخرى بمبلغ لكي يهبه لذوي الحاجة إنابة عنه. وقد وافاه ذلك الثري بمبلغ مساء فجاء يستشير الإمام في أوجه الصرف فسأله الإمام:
كم المبلغ الذي أعطاك إياه لإنفاقه فقال:
٢١ ألفا و٦٠٠ جنيه!
فقال إنه ذهل وطلب من الغريب فض مسألته فحكاها مختتما بمقدار المبلغ المطلوب.
قال إنه وصديقه ظلا ينظران لبعضهما قرابة ١٠ دقائق في ذهول بعد أن تعطلت لغة الكلام بقوة الدهشة.
تابع الإمام أنه طلب من صديقه تقديم المبلغ الموضوع في ظرف للغريب الذي شكرهما ملياً، ومضى مسرعا للمستشفى للحاق بزوجته.
وختم الإمام بأنه وصديقه ظلا يتحدثان حول هذه الواقعة ويقلبانها أكثر من ساعة قبل انصرافهما من المسجد والحيرة تملأهما.
هنا وصلت الحافلة لمنتهاها فودعت صديقي عبد العال وهو من شمال غرب المحس راوي القصة العجيبة ومضيت، غير أن ملابساتها ظلت تسيطر على تفكيري طوال اليوم حتى انتهيت إلى أن بعض وقائع هذه الدنيا المخالفة لطبيعة الأشياء’ أي الخوارق لا تخضع لحساباتها التي نعرفها بمداركنا المحدودة.
ما أعجب بعض التصاريف
بل ما أغربها!