“١”
٥ نوفمبر ١٨٨٣ ..
في سهل فسيح ما .. بجوار غابة تسمى شيكان .. هُرعت أسراب النمل إلى مخابئها الحصينة وقد غَلّ الخوف منها غريزة الفضول . قالت إحداهن لصويحباتها : “هذه الوجوه الغريبة ما زال أصحابها يتسيدهم العزم اللحوح على التقدم بأسلحتهم الثقيلة بإتجاه الغرب .. يقودهم ذلك الرجل الأبيض ذو العينين الزرقاوين الواسعتين والذقن الذي تاهت تفاصيله ما بين إندحار شعره الأسود وغلبة شعره الأبيض حتى مشارف العارضين”.
ردت إحداهن بإمتعاض : “لم يعد فيما تقولينه سر يستصعب العقل إدراك خباياه .. هذا الخواجة هو هكس باشا .. يقال إن أتى من بلاد بعيدة يسمونها إنجلترا .. جاء ليمرمغ أنوف رجال هذه الأرض في ترابها .. جاء ليجلبهم نحو طاعة أهله فيما وراء البحار مرغمين، كأنهم قافلة رق لن يهنأ قائدها دون أن تنحني له الهامات وتصغر له الجباه مع مطلع كل صباح تكتحل بالضوء فيه مقلتاه.
تلقفت نملة أخرى كل ما قيل بغضبٍ بائن وهي تزحف بجسدها الناحل نحو منتصف السرب المائج بدوي الأقدام .. فعاجلت رفيقاتها بلهجة حاسمة: “هذه الأرض ظلت توغل في عشق أبنائها منذ أزمان بعيدة .. وسنرى اليوم إي هامات سيتغشاها الذل والخسران .. وأي أنوف ستشمخ ليستنشق أصحابها هواء الحرية”. هكذا خمد ذلك الجدل القصير قبل أن تمتلئ أخاديد النمل الحصينة بوقع الأقدام الخائفة المرتجفة .. وتسيد الهلع من غموض النهايات فوق الأرض .. تلك الأغوار السحيقة فيما تحتها ..وخضعت الحواس مجتمعة لسطوة الترقب الهياب الذي ليس لمثله سطوة.
“٢”
لم يمض الكثير من الوقت قبل أن تتبدى الأرض للناظرين كفتاة سافرة الوجه لن يمنعها الحياء من غزو الأعين برأسٍ حاسر .. كل شيء كان واضحاً حتى لم يعد هناك أي شائبة تسد منافذ البصر .. أمّ قائدٌ ما جيشه لأداء صلاة الفجر و قُرأ حزبٌ من القرآن مع الراتب حتى ألقت الشمس بطلائع خيوطها الذهبية المتفرقة على تفاصيل كل شيء هناك ، فأحالت الظلمة التي كانت تردد آخر أنفاسها إلى قبسٍ من الضياء.
نهض من فروته مسرعاً .. محمد احمد المهدي بن عبدالله .. ذلك الشاب ذو التسعة وثلاثين عاماً بقامته المائلة إلى طولٍ يفوق الربعة بسنتيمترات قليلة .. كانت عمامته كعادتها .. ناصعة .. بيضاء تغطي شعر رأسه بالكامل، وقد إنسدل منها طرفٌ طويل ليستدير حول أسفل وجهه الأسمر دون أن يحجب لحيته التي بدت على الرغم من كثافتها .. على درجة رائعة من التهذيب . كان يتزيا بذات الرداء الذي يرتديه أدنى جنوده وأرقهم حالاً.. الجبة البيضاء برقاعها الحمراء والخضراء المنتثرة على أطراف قماش من الدمور مع السروال الذي يرتفع إزاره فوق مستوى الكعبين ببضعة مليمترات .
ولما جئ بجواده الأشهب .. تقدم نحوه راجلاً بخطوتين ثم قفز على صهوته وسيفه ما زال قابعاً في ذلك الغمد الذي تدلى من اليسار ليلامس جسد فرسه الضخم. تأمل رجاله الذين تراصوا أمام عينيه المتوهجتين بانتظام بديع .. رايات جيشه الثلاث .. الحمراء والخضراء والزرقاء.. تزخم البصر وقد غازلتها رياح نوفمبر الكردفانية الدافئة كالعاشق الذي يغازل سرباً من الحسان ..ها هي الأرض التي تعرف رائحة عرق أبنائها جيداً .. قد تغطت بأرتالٍ من الخيل والرجال .. تؤزها النقارة أزاً شارف بقوته بأس الزلزلة .. الأمير عبدالرحمن النجومي في مقدمة الراية الحمراء يتصاهل فرسه، كأنه يناجي جواد الأمير موسى ود حلو في مقدمة رايته الخضراء .. جراب الرأي الأمير يعقوب ود تورشين وقف شامخاً يتقدم الراية الزرقاء كتبلدية راسخة الغرس .. الأمراء .. حمدان ابوعنجة والزاكي طمل والنور عنقرة وميرغني صالح سوار الدهب ..موسى ود مادبو .. على الجُلة و الحاج خالد العمرابي بسحناتهم المتفاوتة .. كانت جيادهم تجوب صفوف مقاتليهم الأمامية بحماسة ملتهبة.. اليوم استوى ما غرسه السودانيون من جهد بأزنادهم الفتية لمجابهة الغزاة .. كزرعٍ مخضر السوق .. مؤتلق الأوراق .. يبهج البصر ويغزو ببهائه الأعين والحدقات .. لم يتبق كثير مِن الكلام في صدر القائد الذي أعد لكل شيء عدته بدقة عجيبة .. ها هو الآن يتقدم بجواده إلى الأمام وهو يغالب صهيله المتعالي و وقع حوافره الحميسة مخاطباً جيشه بصوته الجهوري ولهجته الواثقة :
” من تأخر منكم ليصلح نعله فلن يدرك الغزاة على قيد الحياة “.. فدوت الحناجر بالهتاف الذي استولى ببأسه على الأفئدة .. وعانقت زغاريد النسوة “المتحزمات” من خلف الرجال .. أسنة الرماح التي ارتمت عليها أشعة الشمس حتى تمثلت للناس كمصابيح من النور ليس لضيائها منتهى..
“٣”
استدارت عقارب ساعة ما ملقاة على تراب شيكان .. بريطانية الصنع على الأرجح.. بدورة كاملة لا ينقضي مثلها إلا مع مطلع الشمس في اليوم الذي يليه. وخرج النمل من مخابئه آمناً مطمئناً يراقص الأرض التي أثملها نصرٌ صاده أولادها لتبقى هي كما أحبوا لها أن تكون.. متمنعة على قدمي كل مختالٍ غرور .وبرزت للأعين الشغوفة .. تلك النملة العنيدة بجسدها الناحل الرقيق وهي ترمق رفيقاتها بوجهٍ ساخرٍ منتصر. استبانت للجميع.. كملكة ما اعتلت عرشاً افتراضياً مهيباً . فلم تزد على كلمات ثلاث نثرتها على من حولها بيقين “حكامة” كردفانية تعي ما تقول جيداً..
ألم أقل لكم؟!
أيام قليلة تعاقبت كساقية دارت على غير عجل، قبل أن تبرز صحف لندن لقرائها وهي تلتحف رداءاً نائحاً.. قاتم التقاطيع . هناك بُذلت الكلمات المنكسرة على موائد حزن ليس لمداها منتهى.. ثمة مآقٍ زرق تجولت ما بين الأسطر بحرقة مقيتة. وثمة أجفان طالما أبطرها الكِبر، لم تعد متمنعة اليوم على استدرار الدمع من مكامنه العصية. ثمة حفاة ما في صحاري السودان جندلوا جنرال بريطانيا برماح لا تهاب رصاص الغزاة المنهمر!
وثمة حكاية ما بقيت لترويها أسراب النمل هنا .. جيل بعد جيل .. عن ذلك العام الذي ناح فيه الشتاء هناك معانقاً بحر الشمال البارد بوقعٍ مزمجرٍ ثكّال
.. وذات الشتاء الذي دقت فيه أقدام النمل.. هنا.. ذرات التراب برقصةٍ هائجة مجنونة..
هذه الأرض لنا .. وليست لسوانا!