بعد غياب لعدة سنوات من السودان سعدت بحضور حفل زواج أسري في إحدى صالات الاحتفالات في الخرطوم.. كانت المناسبة تشكل لي فرحة خاصة؛ لأني لم أشهد مناسبة أو أشارك في فرحة مماثلة منذ سنين طويلة في السودان.
كان ذلك قبل سنة. سوء مكبرات الصوت التي لم تكن مهيأة للعمل في الصالات المغلقة حرمني من الاستماع الجيد لذلك الصوت الشاب الجميل الذي قدم بقوة شديدة لعالم التطريب مأمون سوار الدهب، الذي لا أدري كيف تراجع حضوره بالسرعة نفسها التي توهج بها.
كانت مناسبة مفرحة حقاً، التقيت فيها أحبة ومعارف كثيرين غيبتهم عني سنوات المهاجر، وكان من بينهم صحفية ناشئة متألقة كثيرة الاجتهاد والطموح. بينما كنت أتجاذب أطراف الحديث معها ونحن وقوف، لفتت نظري بفرحة طفولية وهي تشير بيدها إلى شخص ما يجلس بعيدا عنا. قالت لي كأنها تطلعني على كنز عزيز كانت تخبئه، قالت وهي تشير إليه :”داك عبد الغفار”.
كانت المسافة بعيدة لم تكن تمكنني من تبين من كانت تعنيه. قلت لها “ومن هو عبدالغفار هذا؟”
قالت لي وهي في قمة الدهشة والاستغراب من جهلي “كيف ما بتعرفو..عبدالغفار الشريف..دا مخوف الخرطوم دي كلها.. الصحافيين بعرفوه كويس”..
انتقلت دهشتها إلي فلاحقتها بأسئلتي: “ليه؟ أصلو بعمل شنو؟ وانت ليه ما بتخافي منه؟”
حكت لي على عجل شيئاً من سيرته المهنية، وسطوته وسلطاته الواسعة. تعوذت بالله من كل شر، وأنا في قلب الاحتفائية الفخيمة.. اندهشت هي فعلاً لما علمت أنني لم أسمع باسمه من قبل.
قلت لها إنه ربما يعود جهلي لوجودي سنوات طويلة متواصلة خارج الديار كنت مشغولاً خلالها باهتمامات أخرى كثيرة. لم يدفعني حب الاستطلاع للاقتراب أكثر إلى حيث كان يجلس لأتبين ملامح الوجه المثير للجدل والتي قد لا تنسجم مع جلال المناسبة.
انصرفنا لحديث في شأن آخر غير عبدالغفار الذي قدرت أنه ربما يمت لأسرتها بصلة ما، وربما كانت ستدعوني للسلام عليه وتعرفني إليه يومذاك لو آنست في شيئا من الاهتمام والانبهار.
على كل حال لم يكن عبدالغفار موضوع حديثنا في لقاءاتي المتكررة بها بعد ذلك حتى غادرت الخرطوم عائداً لمهجري العتيق كما يحلو للحبيب شيخ العرب عبدالإله أبوسن أن يسميه.
ولأن المتغطي بالسلطة عريان، ولأن الدنيا كما وصفها الفيتوري:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسر من لم يأخذ منها
ما تعطيه على استيحاء
والغافل من ظنّ الأشياء
هي الأشياء!
تاج السلطان الغاشم تفاحه
تتأرجح أعلى سارية الساحة،
فقد دار طبق الروليت،وكان دورانه عنيفاً وسريعاً، واختفى عبدالغفار الشريف فجأة من المشهد، ولم يعد يرعب أحداً مثلما كان يفعل من قبل،أو كما قالت لي يومها صديقتي الجميلة إنه يفعل.
أرسلت لها رسالة من مهجري أستفسرها عن عبدالغفار قبل أن يصبح شأنه متداولاً في الإعلام، فآثرت أن تتجاهل رسالتي تلك لسبب أو لآخر، وإن كنا قد واصلنا التراسل كالمعتاد في غير موضوع استفساري. ولأني أكره أن يحيق الظلم بأي إنسان، أيا كان، فإني أسأل الله،وأنا لا أعرف الرجل،أن يفرج كربته إن كان بريئاً، وأن يقتص منه إن كان مسيئاً، ويجزيه بمثل فعله.
khamma46@yahoo.com