كان نيرون أو (نيرو) الإمبراطور الخامس والأخير في سُلم الإمبراطورية الرومانية، وقد نشأ وترعرع في أجواء غريبة إلى أن وصل للعرش، وما كان ذلك ليتأتى له لولا أن الإمبراطور كلوديوس اتخذه ابناً بالتبني، وكلوديوس هذا اشتهر بالبلاهة الشديدة، مما حدا بعامة الناس استخدام اسمه للدلالة على التسفيه والتحقير والإهانة. أما عمه الإمبراطور كاليجولا – الذي ليس لديه أبناء يرثونه – فقد كان مسرفاً في المجون والملذات، ليس ذلك فحسب بل تعتريه رغبات جامحة في تعذيب معارضيه بشتى صنوف العذاب، كأن يلقي بأجسادهم الممزقة طعاماً للحيوانات المفترسة. ونظراً إلى أن ردهات القصور دائماً ما تضج بالمؤامرات، فقد تخلَّصت أغربينيا والدة نيرون من ميسالينا زوجة كلاديوس وتزوجته، علماً بأن ميسالينا كانت آية في الجمال ولكنها فاجرة. وعلى الرغم من أن القانون الروماني لا يسمح بمثل تلك الزيجة، إلا أن أغربينيا بدهائها اشترت ذمم بعض أعضاء مجلس الشيوخ، واستصدرت منهم قراراً بالزواج. ثمَّ ما إن خلا لها الجو حتى قامت بحياكة سلسلة من المؤامرات، والتي انتهت بقتل كلاديوس نفسه وتزويج ابنته أوكتافيا لابنها نيرون، وبذا مهدت له الطريق ليصبح إمبراطورا!
(2)
ولأنه كان شاباً يافعاً فقد عهدت أغربينيا بتربيته وتنشئته إلى سينيك العالم الفيلسوف وبوروس قائد الجيش. لكن لم يمض زمن طويل حتى بدأ الصدام يدب بين نيرون المتعطش للسلطة وأمه بنفوذها الطاغي، وعندئذٍ شهدت أروقة القصور صراعاً محموماً وقتلا مسموماً، طال الكثيرين وانتهى بانصراف نيرون إلى حياة العربدة والمجون والبذخ. وتبعاً لذلك بالغ في حبه للعطور والزهور، وكان يتنكر ليلاً ليأتي بأفعال غريبة، مثل توهمه أنه موسيقار ومغنٍ وممثل. وفي خضم غيبوبته تلك حمل له الوشاة من المقربين خبراً فحواه أن أمه تسعى للإطاحة به، فجن جنونه ولأنه يحب كرسي العرش أكثر، لم يكن في حاجة لسماع رأي مجايليه والقائل إنه يجب أن يتخلص منها، فدبر لها طريقة ماكرة وقتلها شر قتلة. وبعدئذٍ انفتح باب الدم على مصراعيه، إذ طالت الاغتيالات الكثيرين، ولم ينج منها حتى معلمه سينيك، الذي أمره نيرون بتقطيع شرايينه حتى الموت. ففعل الفيلسوف مرغماً، لكن تلك كانت إشارة أيقظت الرومانيين من سباتهم العميق. فأدركوا أن حكم نيرون أصبح وبالاً عليهم، فتصاعدت موجات التمرد والانقلابات الفاشلة، ولكن تبعاً لها تصاعدت وتيرة القتل العشوائي أيضاً!
(3)
عندئذٍ انصرف نيرون عن إدارة شئون البلاد تماماً، وانغمس في حياة اللهو والمجون، كما أصبح يتلذذ بالقتل وإراقة الدماء.. إلى أن حانت في العام 64 م لحظة أشهر جرائمه على الإطلاق، وهي حرق روما. بدأت النيران في القاعدة الخشبية للسيرك وانتشرت على مدى ما يقارب الأسبوع، وبينما كانت ألسنتها تتصاعد نحو عنان السماء، والأجساد المحترقة تختلط بالشجر، والأصوات المكلومة تفتت القلوب والحجر. جلس نيرون في برجٍ عالٍ ممسكاً بآلة موسيقية وقد خلب منظر النيران لبه، فطفق يغني أشعار هيموروس التي يصف فيها حريق طروادة. وبعد أن أتت النيران على أكثر من ثلثي المدينة، اتجهت أصابع الاتهام نحوه من قبل الشعب والسياسيين. وعندئذٍ بدأ يبحث عن كبش فداء، ففاضل بين اليهود والمسيحيين. إلى أن وجد ضالته في الأخيرين، فشرع فيهم تقتيلاً وحشياً على مدى أربع سنوات. وبعدها آثر الهروب للتخلص من محنته، فاحتمى بكوخ بائس لأحد خدامه وظلَّ مختبئاً فيه لبعض الوقت. ولكن عندما شعر بدنو صوت سنابك خيول الجنود، قرر أن يقتل نفسه. ولكن حبه للحياة حال دون أن يقدم على ذلك، وإزاء تردده ذاك قام الجنود بقتله في العام 68 م. فرحل الطاغية وخلَّف وراءه عبر ودروس لمن به قلب وألقى السمع وهو شهيد!
(4)
طالما أن الشيء بالشيء يُذكر، فقد طرأت على ذهني تلك الصورة البانورامية المؤثرة لمعاناة الرومانيين في زمان مضى، فتأملت مسيرة مضنية مماثلة، رزح تحت وطأتها الشعب السوداني على مدى ثلاثة عقود زمنية، أي منذ أن استولى النيرونيون الجدد على مقاليد السلطة وأعادوا البلاد إلى عصور الجاهلية الأولى. أما أنتم – يا أعزائي القراء – إن شئتم مقارنة مرهقة بمثلما فعلت، فلن تدخروا وسعاً، إذ وضعتم ببساطة أسماء مكان أسماء. فالتاريخ دائما ما يكرر نفسه، وإن لم يكن بذات الوقائع فبوقائع مقاربة. ولهذا السبب فإن عِبره تظل شاخصة أبصارها في كل مشهد وإن اختلفت مسارحه. فالنيرونيون الجدد يعلمون تماماً أنهم أوصلوا البلاد لدرجة انحطاط لم تشهد لها مثيلاً في تاريخها الممتد منذ غابر الميلاد. فهم يعلمون أنه قد هلك الزرع والضرع، واستنسخوا روح نيرون، وحملوا قيثارته وصاروا يعزفون بها متلذذين برائحة شواء أجساد البشر على أرض أصبح صعيدها جرزا. والنيرونيون الجدد لا يأبهون إن حاق بالوطن الدمار، لأن ليس في قاموسهم ذلك المعنى السامي للأوطان الذي رضعناه مع حليب أمهاتنا. والنيرونيون الجدد لا يكترثون لمعاناة المواطن لأنهم غارقون في بحر من الشهوات وحب الذات. والنيرونيون الجدد تبلدت أحاسيسهم، فهم يراءون الجوعى ويمنعون الماعون، يسمعون أنين المرضى ويستغشوا ثيابهم في آذانهم، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف!
(5)
يا سادتي (الغافل من ظنَّ أن الأشياء هي الأشياء) هكذا خبرنا شاعرنا الراحل محمد الفيتوري مخاطباً (ياقوت العرش) في قصيدته ذات النفس الصوفي العميق. يا الله يا ذا الجلال والإكرام وحامل الذات العليا، ولكن ما بال قوم يكابرون وينزلونك لمدارك دنيا وقد بلغت الروح الحلقوم؟ بودي لو يشهر أحدهم قلمه على الملأ ويحدثنا عن واقع وردي، غير الذي يعيشه الناس ضنكاً وعذاباً ومعاناة على طول السودان وعرضه. فإلى ماذا يريد (هؤلاء) أن يوصلوا البلاد وقد (انتهت) تماماً؟ وهذه الكلمة ليست من بنات أفكاري، فهي الكلمة التي صارت مفتاحية بين كل من يتحدث في الشأن العام، سواء في داخل البلاد أو خارجها. وأصبحت واقعاً يعيشه الناس كل يوم. ودعك من قولنا نحن العلمانيين – بحسب مفهومهم – فهل قارعوا إسلاميين كانوا بينهم مثل، الطيب زين العابدين ومبارك الكودة والمحبوب عبد السلام وعبد الوهاب الأفندي والتيجاني عبد القادر وخالد التيجاني وآخرون من وراء حجاب؟ علماً بأن الوضع الراهن ليس في حاجة لدليل أو برهان، فالفساد قد شابت له الأجنة في الأرحام، والاستبداد بلغ شأواً كبيراً، والدماء جرت مدراراً في كل بقاع السودان، والناس تشتت شملهم بين مغترب خارج الوطن ومستغرب داخله، ولعل الأنكى وأمر تلك الطعنة النجلاء التي وجهوها لكبرياء المحكومين وأصابت مقتلاً لو كانوا يعلمون!
(6)
نعم هم يعلمون ولكنهم لا يأبهون برغم السيل الذي بلغ الزبى. يعلمون ويراهنون على خراب الذاكرة السودانية، وذلك لاعتقادهم أن طول الجُرح يغري بالتناسي كما قال الشاعر. وعوضاً عن الاعتراف بالواقع الكارثي الذي أوصل البلاد لمدارج المجهول، فهم يتعمدون صناعة عالم وهمي لا يوجد إلا في مخيلتهم المريضة، يصنعون الكذبة أولاً، ثم يصدقونها من بعد، ويروجونها بحسبها الواقع، فكل شيء يحال للسماء حيت لا أحد يدعي تواصلاً. يهربون من الدنيا إلى الآخرة لأنها مبنية على مجهول، بغية أن يصوروا المعاناة ابتلاء من رب العالمين، دون أن يسألوا أنفسهم لماذا يبتلي الله قوماً صوامين قوامين مؤدين لفروضه ومتجنبين نواهيه ويترك قوماً كافرين – بمعيارهم – يرفلون في حلل قانعين؟ هم يعلمون أن تلك أسئلة مرهقة للعقل والوجدان، ويكفي أن الشعوب لو كانت تُجزى بقدر تضحياتها لنال شعب السودان الفردوس جزاءً. صحيح أن الذاكرة السودانية اعتراها بعض الوهن، ولكنهم أتوا بما لا تستطيع تلك الذاكرة أن تمحيه وإن تقادمت الأزمنة.
فإلى متى الناس جوعى وهم يتجشأوون، وإلى متى الناس مرضى وهم مترفون، وإلى متى الناس صامتة وهو يلعلون، وإلى متى الناس هائمة على وجوهها وهم مستقرون.!!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!!
faldaw@hotmail.com