لو كان الأمر بيدي، كنت أغلقت فوراً ودون تردد ثلاثةً من أوسع أبواب تبديد وهدر المال العام والفساد، وهي تلك التي أتاحت الفوضى الضاربة بأطنابها والمشاهدة لكل ذي عينين يرى.
فيما يتعلق بالعربات (السيارات) الحكومية، وأثاث وأدوات واحتياجات المكاتب الحكومية ومباني مقار الحكومة وأجهزتها. وقد أعان على ذلك، ضعف الولاية على المال العام، وما ابتدعته بعض الجهات الحكومية وعُرِفَ “بالتجنيب” من الإيرادات بدلاً عن توريدها كاملة لخزينة الدولة!
فلو كان الأمر بيدي لأوقفت فوضى شراء وصيانة واستخدام العربات الحكومية، ولأعدت من جديد مهام ومسؤوليات “مصلحة النقل الميكانيكي”، وقد كانت جهازاً مهماً من أجهزة الدولة، يعمل بنظام فعال وبسياسات واضحة وإجراءات وضوابط محددة يُحْكِمْ من خلالها الرقابة الصارمة على كل العربات الحكومية من جميع الأوجه وأهمها: دراسة طلبات الجهات الحكومية لتوفير العربات والبت فيها في ضوء الحاجة الفعلية للجهة الطالبة، وتحديد العدد اللازم منها بمؤشرات واضحة، واختيار الأنواع (صوالين، بكاسي، قندرانات ،قلابات، لواري، شاحنات إلخ) والموديلات، ومباشرة إجراءات شرائها واستلامها بالتنسيق مع الجهات المختصة. وإضافة لهذا كانت تقوم بأعمال الصيانة بجميع أنواعها في الورش الخاصة بها.
كان تخصيص العربات لموظفي الحكومة يتم بموجب اللوائح المعتمدة، ووفق متطلبات مسؤولياتهم ومستوياتهم الوظيفية، وهنالك متابعة ورقابة على الاستخدام الكامل، بترك العربة مع المسؤول كل الوقت، أو الاستخدام الجزئي بتخصيصها له للحضور للعمل والانصراف، وفيما بين ذلك تكون ضمن عدد محدود من العربات (Pool) لأغراض العمل الأخرى. وفي نهاية الدوام توقف العربات بجراج أو حوش الوزارة أو الجهة الحكومية تحت الرقابة لا يستخدمها أحد إلا في الحالات الاستثنائية التي تتطلب خروجها. وكان لمصلحة النقل الميكانيكي فروع بالأقاليم (الولايات) تمارس هذا الدور الرقابي المهم بكفاءة واقتدار.
ولو كان الأمر بيدي، لأوقفت فوضى تأثيث مكاتب الحكومة بأجهزتها ووحداتها المختلفة، ولأعدت من جديد المسؤوليات والمهام التي كانت تباشرها “مصلحة المخازن والمهمات” لضبط تأثيث مكاتب الحكومة في المركز والولايات. فمن يصدق من شباب الموظفين اليوم وعلى سبيل المثال، أن ” تربيزة وكرسي” الموظف الخريج الجامعي الجديد في إسكيل Q”” الذي كان يتم تعيينه في أي وزارة أو مصلحة أو هيئة سواء في العاصمة أو خارجها، هي نفسها في أي موقع حكومي آخر، وأن المكتب نفسه كان يقتسمه أكثر من موظف في ذلك الإسكيل، وعندما ينتقل الخريج للمرتبة الأعلى “DS” يستخدم أثاث آخر بمواصفات محددة لتلك الدرجة وهكذا الحال، وهو يترقى في مراتب السلم الوظيفي.
وقِسْ على ذلك تأثيث المكاتب وتهيئتها وتوفير مستلزماتها والأدوات والمعدات الخاصة بها لجميع المستويات الوظيفية من الوزير والوكيل والمدير إلى أصغر مستوى. أي اتباع نمط تأثيث مكتبي واحد بمواصفات ومعايير محددة لكل مستوى وظيفي، لا تستطيع أي جهة حكومية أن تحيد عنه، أو أن تشتري الأثاث والأدوات وماكينات الطباعة وغيرها من المستلزمات المكتبية من السوق مباشرة وتهيئ مكاتبها “على كيفها” كما نشاهد اليوم!
ولو كان الأمر بيدي، لأوقفت فوضى بناء وصيانة المباني والمقار الحكومية، ولأعدت من جديد المسؤوليات والمهام التي كانت تباشرها “وزارة الأشغال” وهي تراقب وتشرف من خلال أجهزتها المتخصصة ومهندسيها الأكفاء، على بناء مقار الحكومة والمساكن والدور التي تملكها الدولة وأجهزتها ومؤسساتها في ضوء الحاجة الفعلية لكل جهة، كما كانت تشرف على إعادة تأهيلها وصيانتها وتخصيصها للمسؤولين أو للاستخدامات المختلفة بمعايير وضوابط وإجراءات محددة. ولا يسمح لأي جهة مهما كانت أن تحيد عنها وأن تشيد مقارها ومبانيها كما تريد، ومع من تختاره من المقاولين دون رقابة كافية من جهة متخصصة مثلما يحدث حالياً.
ليس هذا الذي ذكرت عن مهام ومسؤوليات تلك الأجهزة ضرباً من النوستالجيا والحنين إلى ماضٍ تجاوزناه كما قد يظن بعضنا. وللأسف الشديد تجاوزناه إلى واقع محزن فيه ما فيه من هدر وتبديد للمال العام وفيه فساد لا تخطئه عين. ولكنه دعوة جادة إلى العودة إلى الدولة المنضبطة التي كنا نباهي بها الدول من حولنا، تحكم أجهزتها الأنظمة (Systems) والسياسات (Policies) والإجراءات (Procedures).
وربما يرى بعضنا أن ما أدعو إليه ليس مهماً الآن أو لا يشكل أولوية؛ لأن الحكومة مشغولة بقضايا أهم، ولأن المهام والمسؤوليات تغيرت وتشابكت، والحكومات وأجهزتها تعددت في المركز والولايات والدستوريين والتنفيذيين تكاثروا، وأن الوضع الحالي يتيح المرونة وغير ذلك من الحجج التي تبرر استمراره. ومع كل هذا أنا أزعم أن العودة إلى تلك الممارسات المنضبطة التي ذكرناها، أصبحت ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل في ضوء ما نشاهده من فوضى وهدر للمال العام وفساد، خاصة ونحن نسمع بمساعي الإصلاح الاقتصادي، هذا أولاً. وثانياً وأكثر من أهمية وأولوية ما ذكرت، أنا أزعم أن تحقيق هذا الذي قلت ممكن جداً وليس عصياً ولا مستحيلاً.
وبديهي أنني لا أقصد أن نعيد تلك الأجهزة، وقد أصبحت جزءاً من تاريخنا وإرثنا الإداري، دون اعتبار للمتغيرات أو بصورتها القديمة التي حكيت عنها وألفناها قبل عقود من الزمن، وقبل أن يبدأ نظام مايو في تفكيكها وتأتي الإنقاذ أخيرا ” لتتم الناقصة”! فلو كان الأمر بيدي، لاتخذت قراري بإعادة مهام ومسؤوليات تلك الأجهزة بتنظيم إداري عصري متطور، ولوفرت لها كل ما يلزمها من وسائل وآليات ومعدات وتقنيات ووسائل اتصال حديثة ونظم معلومات وبرمجيات، ولسعيت إلى تطوير واعتماد التشريعات التي تلزمها لإحكام الرقابة من خلال النظم والسياسات والإجراءات ذات العلاقة بمهامها، ولسخرت لها الإمكانيات المادية والبشرية التي تعينها على ضبط كل ما يتعلق بعربات الحكومة، وتأثيث وتجهيز المكاتب، والإشراف على بناء وتأهيل مقار ومساكن ودور الحكومة في المركز والولايات. سأفعل هذا كله ويقيني أن جزءاً يسيراً من الجهد المبعثر والمال العام المهدر وهو كثير، سيمكنني من إنجاز ما أريد.
هذا لو كان الأمر بيدي، أما وأنه ليس كذلك فالشكوى إلى الله!