قرأت مؤخراً كتاب الدكتور صدقي كبلو (السياسة الاقتصادية للدولة والثورة المهدية)، وهو في الحقيقة كتيب لا تتجاوز صفحاته الستة والثلاثين صفحة، وصدر قبل نحو عشر سنوات، لكنه جهد خارق وليد إبداع وعبقرية الدكتور كبلو المثقف الملتزم، فقد كتب المؤلف ذلك السفر القيم احتفاءً بمرور مئة عام على الثورة المهدية، وهو في سجون نظام النميري لا يملك من المراجع إلا القليل أو كتاب بي.إم. هولت فيما يبدو، وهذه مناسبة للإشادة بالأخ الدكتور صدقي كبلو، ودوره التوعوي والتنويري، وهي إشادة مستحقة رغم إنها تجيء متأخرة سنوات طويلة.
استعرض الكتاب في إيجاز بليغ بعض جوانب السياسة والنظام الاقتصادي للثورة والدولة المهدية، إذ تطرق إلى ملكية الأرض وتوزيع الغنائم وبيت المال وادارة الممتلكات المصادرة والتجارة الداخلية وأزمة النقد ومجاعة سنة 1306هـ، وأسبابها وتداعياتها وجنوح الخليفة إلى السلام بعد عام 1890م تحت ضغط الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أرهقت البلاد والعباد.
بعد هزيمة النجومي في توشكي وفي سعي الخليفة إلى ترضية القبائل النيلية شجع التجارة مع مصر”بقصد التخفيف على المواطنين بدنقلا وبربر وإثراء حصيلة بيت المال” وخفف الرسوم على البضائع المتداولة مع مصر. وكان الصمغ من أهم الصادرات إلى مصر عبر نقطة صواردة، فشجع ذلك التجار المصريين لجلب القماش والزيت والسكر والصابون، “وحققوا أرباحاً طائلة قدرها تقرير بتاريخ أغسطس 1890م بأنها بلغت 100% في القماش، و250% في الزيت، و300% في السكر و400% في الصابون، بعد دفع العشور”.
بلغت الواردات من مصر في نحو سنة واحدة 18429 جنيهاً، بينما بلغت الصادرات السودانية إلى مصر في الفترة نفسها 8279 جنيها” ، أي أن الميزان التجاري بين مصر والسودان كان يعاني عجزاً ضخماَ، بمقاييس ذلك التاريخ، بلغ نحو عشرة آلاف جنيه، في الوقت الذي حققت فيه الصادرات السودانية في الفترة نفسها عن طريق ميناء سواكن،إلى بلدان أخرى، فائضاً لمصلحة السودان بلغ نحو 43 ألف جنيه.
تواصلت العلاقة غير المتكافئة بين البلدين، وتواصل ميلان كفة الميزان التجاري بين السودان ومصر لمصلحة مصر منذ عهد الخليفة عبدالله، إلى يوم الناس هذا.
السودان يصدر سلعاً إستراتيجية لمصر مثل المواشي التي كان يعاد تصديرها من مصر لبلدان أخرى، خصوصاً في ظل الحصار الاقتصادي، ويستورد بالمقابل سلعاً استهلاكية هامشية متدنية الجودة، مثل: منتجات سوق الموسكي، ثم أخيرا الفواكه والخضروات المروية بمياه المجاري.، حتى (تعويضات) وادي حلفا على قلتها وظلمها لم تدفع كلها نقداً، بل كان من مكوناتها سلعاً، مثل: الأرز والعدس!!
أتمنى ألا يستهلك الشأن العام كل وقت الدكتور صدقي كبلو، فيرفد المكتبة السودانية والدارسين بورقة عن التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية بين السودان ومصر مروراً بالدولة المهدية حتى اليوم.
مرة أخرى، تحية إلى الدكتور كبلو.
khamma46@yahoo.com