الخرطوم- التحرير:
أجهشت (س) بالبكاء، ودخلت في حالة هستيرية، ولم تفق من هول الصدمة، فما حدث أكبر من أن ينسى، فقد تعرضت للاعتداء الجنسي من مريض نفسي كان يعيش بمنطقتهم، تقول(س) وهي تحكي بمرارة عن ألم وجرح يظل يرافقها مدى الحياة، قائلة: في ذلك اليوم المشؤوم ذهبت إلى صديقتي التي تسكن بالمنطقة نفسها، وبمجرد دخولي الى المنزل قام شقيقها بالهجوم عليّ، وحاول اغتصابي إلا أن صديقتي صرخت وتجمهر عدد كبير من ساكني المنطقة، وتم انقاذي منه بعد معاناة عصيبة، وكاد أن يقضي على حياتي، وعندما عدت إلى منزل أسرتي أخطرت والدتي بالحادثة، وهي بدورها أصرت على تدوين بلاغ في مواجهة ذلك الشخص المعتوه، إلا أن أسرة صديقتي عجلوا بزيارة إلى منزل أسرتي، واعتذرت بالنيابة عن ابنهم، وتعهدوا بعدم تكرار ذلك، وبتدخل الأجاويد تم تدارك الوضع، وحل الاشكالية بطريقة ودية، خاصة وانني لم اتعرض إلى اغتصاب كامل.
وعللت أسرة الشخص ذلك بأن ابنهم كان قد هرب لتوه من أحد المستشفيات الخاصة بالمرضى النفسانيين، وتم ارجاعه الى المستشفى بعد الحادثة مباشرة، ومع أن الحادثة انتهت، إلا أن محاولته اغتصابي أصبحت سيرة يلوكها الجيران؛ مما أدخلني في حرج مقيم.
رعب وقلق
تلك الحادثة التي رويتها لكم هي لب الحقيقة، حدث ذلك في إحدى المناطق الطرفية بالخرطوم، ونجد أن بعض المرضى النفسانيين يجوبون الشوارع والطرقات من دون رقيب ولا عناية من أحد، على الرغم من وجود مستشفيات للصحة النفسية متخصصة، بل كثيراً ما يتسببون في افتعال الإشكاليات المتمثلة في الاعتداءات بأشكالها وفي جرائم القتل والاذى الذي يتعرض له المارة بالشوارع والأسواق.
تثير تلك الحوادث القلق والرعب في نفوس المجتمع، وباتت هناك حالة من الفزع من هؤلاء الذين يجوبون شوارع العاصمة، وتتصاعد اعدادهم يوماً بعد يوم، وتوضح إحصائيات رسمية حديثة صادرة من منظمة الصحة العالمية أن المرضى نفسياً وعقلياً يشكلون أكثر من (20%) من سكان العالم، وأن ثلث البشر مصابون بالتوتر والقلق.
وعلى الرغم من تزايد أعداد هؤلاء في السودان إلا أن الخدمات النفسية ما زالت هزيلة منذ فترة طويلة كادت أن تصل إلى نصف قرن، وأن برامج الوقاية النفسية ظلت متغيبة تماماً في الاستراتيجية الصحية بالبلاد، مما يجعل الوضع النفسي لا يحظى بالاهتمام والتعامل مع عوامل الخطورة المبكرة، وقطعاً أن هذا سيتسبب في زيادة معدل المرضى نفسياً،
عجز في الخدمات
وأرجع الأستاذ سليمان حامد المعلم بإحدى المدارس بالخرطوم أسباب تنامي ظاهرة وجود المرضى النفسيين في الشوارع إلى جهات متعددة، أهمها وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، وأوضح أنها ظاهرة اجتماعية عالمية موجودة في جميع بلدان العالم، ولكنه استدرك قائلاً: ظاهرة وجود هؤلاء المرضى خارج أسوار المستشفيات المتخصصة السبب الرئيس فيها هو عجز الخدمات أمام واقع الأمراض النفسية، وعدم وجود مراكز تأهيل نفسي بالدولة، وهو ما زاد الأمر سوءاً، وساعد على انتشار الجريمة وسط المجتمع، بجانب الاعتداءات المختلفة على المواطنين والممتلكات.
وحمّل سليمان الجهات المختصة مسؤولية حماية هؤلاء؛ لأنها تتجاهل التزاماتها تجاه هذه الفئة التي من المفترض أن تعامل بحذر واهتمام، وقال: “هناك قصور قي بعض الأنظمة التي تقدم الخدمة لهم“.
من الواقع
ولعلّ قصة الأستاذ (ط،أ) الذي تم اخراجه من أحد المستشفيات النفسية بعد رحلة علاج طويلة قاربت العامي، بعد أن أثبتت التقارير الطبية أنه تماثل للشفاء، وسمح له بالعودة إلى منزل أسرته، إلا أنه قام في الاسبوع الاول من عودته الى المنزل بتسديد طعنات قاتلة الى والديه أدت الى وفاتهما في الحال، وذلك بعد أن تعرض إلى نوبة عصبية ونفسية.
والقصة أن الأستاذ المذكور عاد في ذلك اليوم إلى منزل أسرته في تمام الساعة العاشرة مساءً، وجد والدته تقوم باعداد وجبة العشاء لأطفال ابنتها، فعاجلها بطعنة قاتلة من الخلف، وعندما التفتت إليه عاجلها بطعنة أخرى في عنقها؛ مما أدى الى سقوطها مغشياً عليها، وعندما حاول والده إنقاذ والدته شرع بتسديد عدة طعنات له في انحاء متفرقة من جسده توفي على إثرها.
وضع إنساني مؤلم
وفي السياق ذاتهن قالت الباحثة الاجتماعية سهير عبد الرحمن: “إن ظاهرة وجود المرضى النفسيين في الشوارع والطرقات تعدّ من أخطر الظواهر التي تنامت في الفترة الأخيرة، وتمثل وضعاً إنسانياً مؤلماً وخطيراً في الوقت نفسه، وذلك من خلال تصرفاتهم التي تلحق الضرر بهم وبالآخرين على حد سواء“.
وأوضحت أنه يجب على المسؤولين إنشاء مستشفى لتجمع هؤلاء بغرض علاجهم، وأضافت أن هناك عدداً كبيراً من هؤلاء المرضى يرون قارعة الطريق مخبئاً سرياً للنوم، خصوصاً في فصل الشتاء، وذلك الوضع يمكن أن يؤثر في صحتهم، ويؤدي بعد ذلك إلى وفاتهم نسبة إلى تعرضهم للبرد القارس، مؤكدة أن هؤلاء سيقومون بالاعتداء على المارة والمترددين إلى أماكن وجودهم، وطالبت الجهات المختصة بشن حملات من أجل إيداعهم في مستشفيات متخصصة؛ مشيرة إلى أن هذه الظاهرة تحولت إلى صداع مزمن بالنسبة إلى أولياء الأمور بعد قيام أحد هؤلاء المرضى بالهجوم على إحدى تلميذات المدارس، مثيراً الفزع بين أطفال المدارس والمارة بالشوارع، وهؤلاء المرضى نجدهم ينتشرون أمام المقاهي الموجودة على الطرقات، إضافة الى المتنزهات والأسواق مما يؤدي إلى حالة من الخوف والفزع وسط المواطنين دون تدخل من الجهات المختصة.
مطالبات عاجلة
وطالب عدد من المواطنين الجهات المختصة التصدي لهذه الظاهرة، بعد أن أصبحت تمثل مظهراً غير حضاري بشوارع العاصمة، وذلك لقيامهم باثارة الفوضى والرعب بين الأطفال والأسر، وعلى رأسهم شيخ الدين اسحاق الذي تعرض لهجوم بآلة حادة من الخلف عندما كان في طريقه إلى عمله من قبل أحد هؤلاء المرضى، حدث ذلك عندما كان ذاهباً إلى عمله، ولولا العناية الإلهية لكان فارق الحياة.
وتساءل شيخ الدين عما يحدث قائلاً: أين الجهات المختصة ومسؤولو الصحة من رعاية هؤلاء المرضى الذين اصبحوا خطراً على حياة المواطنين وأولياء الأمور، حيث يوجد كثير من المرضى متراصين أمام المدارس بصفة مستمرة .
قنبلة مؤقوتة
يرى البرفيسور علي بلدو أن المرضى النفسانيين المنتشرين في الشوارع هم قنبلة مؤقوته تبدأ في الانفجار بعد فترة، ويعود ذلك إلى انتشار الأمراض النفسية وثقافة العيب والوصمة، إضافة ألى عدم وجود مواعين كافية لاستيعاب هؤلاء المرضى، جنباً إلى جنب مع تقاعس الجهات المختصة، وغياب الرؤية الثاقبة من الوزارة والجهات المنوط بها لحل هذا الاشكال، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى ارتفاع قيمة العلاج والأدوية والتنويم، إذ يعد مجال الطب النفسي والعصبي من أغلى المجالات الطبية، ويواصل المختص النفسي ليضيف أن أهم الأمراض المؤدية الى هذه الحالة، هي: التشرد بالشوارع، والإدمان وانفصام الشخصية على قمة اللائحة، يليه الاكتئاب والاضطراب والتخلف العقلي، إضافة إلى مرض الخرف والزهايمر وبعض الحالات أكثرها ذو المنشأة الصدقي والاكتئاب النفسي والاضطرابات النفسية.
ظواهر سالبة
بحسب بلدو، فإن هؤلاء المرضى يتحولون إلى ظواهر سالبة نسبة للألفاظ الخادشة والتحرش والاعتداءت التي قد تصل إلى تدمير الممتلكات ،وإشعال النيران، وكذلك القتل، وأردف أن هناك حادثة قتل بخصوص أحد المرضى النفسانيين حدثت منذ وقت طويل، ولكن لازالت تلك الحادثة راسخة في ذهنه، وهي: أن أحد المرضى المنتشرين بالشوارع قام بالتهجم على أسرة تقوم بالتنزة في إحد ىالحدائق العامة ليقوم بقتل الزوج والزوجة، وثلاثة من الأبناء والبنات قبل أن يتم التحكم فيه من أفراد الشرطة.
حلول عاجلة
ويختتم البروفيسور بلدو حديثه لـ(التحرير ) ليعبر عن بالغ سخطه وحزنه وفقدان الأمل بالجهات المختصة، مبيناً أن الحل يكمن في استيعاب كوادر طبية، وتضمين منهج الصحة النفسية، وكذلك إعفاء العلاج النفسي تماماً من أي تكاليف، وجعله مجانياً، واستثناء المراكز النفسية والمستشفيات من لوائح المحاسبة المالية والخدمة العامة من أجل تقديم خدمة متميزة لكثير من المرضى بالشوارع، وتوقع الخبير النفسي تفاقم المشكلة في ظل الغياب التام لأي تحرك حقيقي من أجل معالجة تلك الظاهرة، وأضاف هناك تزايداً في عدد الاعتداءات من هذه الفئة بصورة مخيفة.
عقوبات قانونية
وقال المحامي والمستشار القانوني آدم بكر: “إن حماية المرضى النفسانيين من واجبات الدولة، ولا تترتب عليهم عقوبات قانونية في حالة الاعتداءات التي تحدث من جانبهم، ولكن يتعرض الشخص المعتدى عليه للمساءلة القانونية“.