رصدنا الأسبوع الماضي في هذا الباب تحركات توحي بأن ثمة معالم تسوية سياسية لأزمة السودان المستحكمة تبدو في الأفق، ولكن تفاصيلها غائبة ولا يعرف أحد تفاصيلها ولا أبعادها. ومنذ ذلك الوقت، تواترت الأنباء والتصريحات التي تجلّي بعض ما غمض من تفاصيل التسوية، وهي مبادرة إقليمية دولية سودانية تبتدر مدخلاً جديداً للتعامل مع الأزمة السودانية.
الفكرة أن يتم التحرك عبر ثلاثة مسارات، بدلاً من المسار الواحد الذي يعتبر الأزمة في نهاية المطاف هي أزمة حكم، وأن الذين حملوا السلاح إنما فعلوا ذلك طلباً لإعادة هيكلة سياسية تضمن لهم اقتساماً عادلاً للثروة والسلطة، وأنه مهما كانت طبيعة الأزمة وخصوصيتها في الولايتين أو في دارفور فهي في آخر الأمر أزمة غياب الحكم الراشد، ومن ثم فإن الحل النهائي لا بد أن يعالج الأزمة في مجملها ويصل إلى أعماق جذورها.
الحكومة ظلت دوماً تتطلع إلى تقسيم الأزمة إلى جزيئات، باعتبار أن هذا التشظّي يُضعف المعارضة، ويقوّي موقف الحكومة، ويباعد بين مطلب السلام ومطلب التحول الديموقراطي، ويُحدث تنافراً بين المعارضة السياسية والمعارضة المسلحة. وفي كل الجولات السابقة التي دارت مع حمَلة السلاح، كانوا في نهاية المطاف يربطون ما بين الحل الشامل والتفاوض الشامل، ويرون أن أي اتفاقات يصلون إليها ينبغي أن تكون جزءاً من الحل الشامل؛ ضماناً لديمومة الحل واستمراريته.
التسوية المطروحة حالياً تريد للدارفوريين أن يفاوضوا وحدهم في تكملة لاتفاقية الدوحة التي هي الأساس الذي لا تعرف الحكومة أساساً غيره، وقدّمت الحكومة تنازلاً محدوداً؛ إذ قبلت أن تنشئ آلية مستقلة يُعهد إليها تنفيذ أي اتفاق تنتهي إليه مفاوضاتها مع حركتي مناوي والعدل والمساواة، وهذا ما اعتبره مسلحو دارفور اختراقاً كبيراً يُعتبر بديلاً مقبولاً لخريطة الطريق التي وقّعوا عليها سابقاً، والتي تنكرت الحكومة لها مؤخراً واعتبرتها قد تجاوزها الزمن.
وقد أكمل الدارفوريون الآن اتصالاتهم مع الوساطة القطرية ومع مجلس السلم الإفريقي، وباتوا جاهزين للتوقيع الأسبوع المقبل على اتفاقية مرحلة ما قبل التفاوض، ومن ثم الانطلاق في مفاوضات وقف إطلاق النار الدائم.
أما أهل الولايتين الذين تولى أمرهم الفريق سلفاكير بموافقة حكومة الخرطوم، فما زالوا ينتظرون أن يصل إلى جوبا – من أديس أبابا – الفريق الحلو ليكمل محادثاته مع الفريق سلفاكير. هي مفاوضات ما زالت مستمرة؛ فسلفاكير حريص على أن يوحّد جناحي الحركة الشعبية (جناح عقار/ عرمان، وجناح الحلو).
الجناح الأول يقبل الصلح ويتمسك بالوحدة، والحلو ما زال في موقف الرفض، ليس ذلك فحسب، بل ويتمسك بتقرير المصير أو الحكم الذاتي لجبال النوبة المرفوض تماماً من الحكومة، وهي تفضّل أن تحاور جناح عقار لو استطاع أن يمسك بالسلطة؛ لأنه في نظرها لا يطرح أطروحات انفصالية.
إذا نجحت محاولات سلفاكير واتجه الوفد الموحّد لمائدة التفاوض حول الولايتين، يكون مشروع التسوية المقترح قد قطع شوطاً طويلاً، ويكون تنظيم نداء السودان قد تفكك عملياً وأصبح تنظيماً سياسياً مدنياً قوامه تحالف ثنائي يتكون من حزب الأمة والمؤتمر السوداني وأي أحزاب تنتمي إليه، وسيصرّ المؤتمر الوطني على أن تكون أجندة الحوار معه هي الدستور المقبل، عبر المشاركة في لجنته، وخوض انتخابات 2020، مع الاستعداد لإدخال تعديلات مقبولة في القانون المجاز مؤخراً من البرلمان.
مشروع التسوية بشكله الحالي يقوم على افتراضات عديدة لن تتحقق على أرض الواقع. وفي مقدمة تلك الافتراضات، أن المعارضة لم يعد لها وجود، وأنها في حالة ضعف لا فكاك منه.
ولكن تحت ظروف السودان الراهنة، فإن قوة المعارضة لا تُقاس بقوة الأحزاب، إنما تُقاس بقوة الرأي العام!
فهل الرأي العام مع الحكومة؟