الله وحده يعلم مدى ما أشعر به من ألم مثل مئات الآلاف الذين آلمهم وأحزنهم مصاب تجار سوق أم درمان، الذين ذهبت أموالهم وبضائعهم نهباً لألسنة النيران الغادرة التي اشتعلت في وقت متأخر من ليل أمس الأول، أو في وقت مبكر من فجر أمس – الله أعلم – والتي لم تتكشف أسباب اشتعالها بعد، رغم أن البعض يحاول أن يحمل بعض المتشردين المسؤولية، لكن هذا سيظل اتهاماً باطلاً إلى أن يصدر بيان نهائي من الجهات المختصة.
النيران التي اشتعلت في المتاجر والمحلات انطفأت الآن مخلفة خسائر مليارية، لكن نيران الحزن والألم والفجيعة لن تنطفيء في قلوب أصحاب تلك المتاجر، فبعضهم يمثل له متجرهم كل رأسمالهم وثروتهم، وبعضهم الآخر يتاجر بأموال آخرين هو من المؤتمنين عليها، ولا نملك إلا أن ندعو الله أن ينعم عليهم بالصبر في مثل هذه المصيبة، وأن يخلف عليهم، وأن يعوضهم خيراً بإذنه تعالى، وقد ذقت من قبل ألم الحريق والفجيعة، تحديداً في الأول من مارس عام 1996م، فقد احترق منزلي بأكمله، ولم يبقَ منه أو فيه شيء سوى ما كان على أبنائي وأهل بيتي من ملابس، وما كنت حينها في الخرطوم، بل كنت في نهايات رحلة برية مع مجموعة من الزملاء في التلفزيون لتصوير حلقات من برنامج (من الخرطوم سلام)، كنا بمدينة “بارا” في ولاية شمال كردفان، وكان محافظ المحافظة وقتها صديقنا الشاعر والخبير الإداري الكبير الأستاذ كامل عبد الماجد، وكنت قد وعدته بزيارة قبل ختام طوافنا ذاك، ولم يكن موجوداً في “بارا” بل كان في ولاية الجزيرة لكنه عاد في ذات يوم وصولنا، وهو يحمل عدداً من الصحف اليومية، فمددت يدي نحوها والتقطت صحيفة “أخبار اليوم” فوجدت نبأ الحريق الذي قضى على بيتي، وهي الصحيفة التي أكتب لها وأعمل مستشار تحرير لها – سريعاً تحولت نحو زاوية (من بعيد ومن قريب) التي كان يكتبها السيد الوالد الأستاذ محمود أبو العزائم – رحمه الله – فوجدته يكتب عن الحادثة بالتفصيل كأنما يبعث إليَّ برسالة من خلال عموده ذاك، وعلمت أن أبنائي وأسرتي بخير، فقد كانوا معهم في منزل الأسرة الكبيرة.
لم أحدث أحداً بما قرأت، بل توضأت وصليت ركعتي شكر لله رب العالمين، ثم أطلعت الأستاذ كامل عبد الماجد وزملائي بالذي حدث، وكنت سعيداً إلى أبعد الحدود لأن الأرواح سلمت.
قبل أيام احترق منزل صديقنا الدكتور معز حسن بخيت في الثورة فتوجهت له فور سماعي بالنبأ، وطلبت إليه أن يحمد الله كثيراً بعد أن نجا الجميع.. كل شيء يمكن تعويضه إلا الروح.. وهذا هو ذات ما نقوله اليوم للذين أتت النيران على محلاتهم في سوق أم درمان، هذه القطعة الغالية من تاريخ مدينتنا.