يمكن القول، دون أدنى تردد، إن التكفير يمثل، في زمننا الراهن، هذا، ظاهرةً عربيةً إسلاميةً، محضة. بعبارة أخرى، هو ظاهرةٌ لا وجود لها، البتة، إلا في هذا الفضاء العربي الإسلامي، الذي يُعدُّ أكثر الفضاءات تخلفًا، في عالم اليوم. ولا نقول هذا تجنيَّا، أو افتئاتًا، إذ أن تخلف أكثرية أجزاء العالم العربي والإسلامي، أمرٌ تثبته، كل عامٍ، المؤشرات الدولية، المتعلقة بالديمقراطية، ورعاية حقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية، والإنتاج المعرفي، والتنمية البشرية، والتعليم، والشفافية، وغيرها من الجوانب التي يقاس فيها مدى تقدم الأمم.
إذن، لا غرابة أبدًا، ألا توجد ظاهرة التكفير، في زماننا الراهن هذا، إلا في هذا الفضاء، المتخلف، وبخاصةٍ في أكثر أقطاره تخلُّفًا، ووزنًا حضاريا. ولكن، ربما بسبب ضغط قيم الحداثة، وبسبب الخشية من المنظمات الحقوقية المعنية بكشف الخروق لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الانسان، وبسبب ضغط الرأي العام العالمي، أصبحت أكثرية الحكومات العربية والإسلامية، لا تصل بأحكام الردة حدَّ تنفيذ عقوبة القتل. هذا، مع وجود استثناءاتٍ قليلة، كان أبرزها، على الاطلاق، حادثة اغتيال المفكر الإسلامي، الإصلاحي، الأستاذ محمود محمد طه، بتهمة الردة، في السودان، في 18 يناير، من عام 1985.
لكن الشاهد في الأمر، أن عددًا معتبرًا، من الحكومات العربية الإسلامية، لا تقف موقفًا مبدئيًا ضد حكم الردة. فهي تبقيه ضمن منظومة قوانينها، وتسمح، من ثَمَّ، لرجال الدين بإصدار أحكام الردة، وفقه. لكنها، في غالب أحوالها، تتجنب تنفيذ القتل، كما سبق أن أشرنا، اعتبارًا لموازنات، تتعلق بالسياسة الدولية، وليس بالدين، بأي حال. فهذه الحكومات أصلا لا تقيم وزنًا للدين، وإنما، فقط، تستخدمه للتضليل، والسيطرة على عقول البسطاء، ليتسنى لها أكل الدنيا عن طريقه.
هذا الصنف من الحكومات العربية والإسلامية، حكوماتٌ خبيثة، وماكرة. فهي تعلم أنها بتركها رجال الدين، يصدرون فرمانات التكفير، إنما تفتح الباب، على مصراعيه، للمتهوسين من عامة الناس، ليقوموا بتنفيذ أحكام الردة، نيابة عنها. وهي بهذا تنفذ ما تريد تنفيذه حقيقة من وراء ستار. وتعفي، من ثم، نفسها، من المسؤولية والحرج، أمام الرأي العام العالمي. فحين يصدر رجال الدين حكمًا بالردة على مصلحٍ، أو كاتبٍ، أو فنان، فإنهم يكونون، ضمنًا، قد أهدروا دمه، بناءً على هذا النوع من الفقه السلطوي، القروسطي، الجائر. وجعلوا، من ثمَّ، من قتله، واجبًا دينيًا، يُثاب فاعله. بذلك، ينفتح الباب أمام أي جاهلٍ مهووسٍ، لكي يقوم بقتل كاتبٍ، أو مفكرٍ، أو فنانٍ، لأن هناك من قال بردته. وقد حدث هذا بالفعل في حادثة اغتيال الدكتور فرج فودة في مصر. ولسوف نعرض لما يتضمنه هذا النهج من تشجيعٍ للجهلاء، لكي يأخذوا القانون في أيديهم، وذلك، حين نتحدث، لاحقًا، عن شهادة الشيخ محمد الغزالي في محاكمة مغتالي فرج فودة، ومحاولته إبعاد العقوبة عن هؤلاء الجناة.
ست دول عربية بها قانون للردة
لربما يُدهش كثيرون إن علموا، أن القوانين في ثمانية بلدانٍ عربيةٍ، واسلامية، تتضمن مادةً للردة، عقوبتها الإعدام. هذه البلدان هي: المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، واليمن، والسودان، وموريتانيا، وأفغانستان، وسلطنة بروناي. وكما يظهر من هذه القائمة، أن ستًا من هذه الدول الثمانية، دولٌ عربية. بل، ولربما ستزداد الدهشة، إذا علمنا، أن جامعة الدول العربية، قد ضمنت مادة الردة، في مشروع القانون الجنائي العربي الموحد. وهو قانونٌ اعتمده مجلس وزراء العدل العرب، كقانونٍ نموذجيٍّ، في نوفمبر 1996. هذه الخاصية التي تتفرد بها الدول العربية الإسلامية، في عصرنا هذا، عن بقية دول العالم، إنما تقدم أبلغ الأدلة، على التخلف المعرفي، والدستوري، الشنيع، لهذا الفضاء الذي نعيش فيه.
ربما لا تفوت على فطنة من يقرأون التاريخ بتدبر، ملاحظة زواج الاستبداد والدين، في التاريخ السياسي للإسلام. هذا الزواج بين المفاهيم الدينية المتخلفة، والاستبداد، هو ما جعل نطاقنا العربي الإسلامي هذا، أكثر النطاقات في عالم اليوم، تخلفًا؛ معرفيًا، وتقنيًا، واقتصاديًا، وتنمويًا. فالحكومات التي أبقت على حكم الردة، ضمن منظومة قوانينها، ليست حكوماتٍ دينية. بل هي أبعد ما تكون عن روح الدين، وطهارته، ونقائه، وما يريد تحقيقه من الخير للناس، كما سبق أن أشرنا. لكنها، رغم ذلك، حرصت على أن تنتقي من جملة أحكام الشريعة الإسلامية، حكم الردة، وتجعله جزءًا من منظومة قوانينها. وهي إنما اختارت حكم الردة، على وجه الخصوص، لكي تحرس به أنظمتها الاستبدادية، من مخاطر البعث الحقيقي، لجوهر الدين وقيمه. وهي القيم النقيضة بالكامل لما عليه حال هذه السلطات الاستبدادية. بوجود قانون للردة، يجري إخراس صوت الحق، ويبقي الجمهور، العريض، غارقًا في الجهل بروح الدين، وبجوهر قيمه. وهكذا، تصبح قضايا الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، خارج دائرة المناقشة. لينفتح المجال لاستبدال نقاش القضايا الجوهرية، بقضايا أخرى، انصرافية.
لقد عَرفت السلطات، في العالمين العربي، والإسلامي، من مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، الطويل، أن حكم الردة كان الأداة المفضلة للحكام المستبدين، لتنفير الجمهور من المصلحين، والمفكرين، ولإطفاء نور العقل، ووأد التفكير الناقد. ولقد كان الوصم بالردة، بالفعل، أقوى الأسلحة التي استُخدمت لعزل المفكرين، والمصلحين، عن عامة الجمهور. إذ بعزلهم، بتهمة الكفر، يضعف سندهم، ويسهل التنكيل بهم، في نهاية المطاف، إن اقتضى الأمر. فحكم الردة ظل، في التاريخ الإسلامي، أكثر الأدوات فعالية في إسناد الأنظمة الاستبدادية، والمد في أعمارها.
التكفير بوصفه فعلاً عشوائيا
يظن كثيرون أن التكفير، والإخراج من الملة، أمرٌ يطال أولئك الذين يأتون بآراء تشذ عما تواضعت عليه الأكثرية. أيضًا، يظن كثيرون، أن هناك فهمًا للدين تتشاركه غالبية الناس، ويشذ عن تلك المفاهيم التي تتشاركها الأغلبية، بعض الشواذ، الذين ينبغي ردعهم. غير أن كل ذلك، غير صحيح. فالتكفير والإخراج من الملة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، ظاهرةٌ، انتقائية وعشوائية، يمكن أن تلحق، في غرابتها، باللامعقول.
لربما لا يعرف أكثرية المسلمين، على سبيل المثال، أن الإمام أبا حنيفة النعمان، قد تم تكفيره من قبل خصومه في الرأي، وأنه أستتيب، في حياته، بضع مرات. بل إن سفيان الثوري، حين بلغه خبر وفاة أبي حنيفة قال: “الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عُرى الإسلام عروةً، عروة. ما وُلد في الإسلام، مولودٌ أشأمُ على الإسلام، منه”!! وهذه العبارة المروية عن سفيان الثوري رددها معه عددٌ من مخالفي أبي حنيفة، من كبار أهل الرأي. نذكر منهم، أيوب السختياني، ومالك، والأوزاعي، ووكيع، وجرير بن حازم، وابن المبارك. كما جاء أيضًا أن الإمام عبد الله، قد روى بإسناده إلى حماد بن أبي سليمان، أنه قال لسفيان: “اذهب إلى الكافر أبي حنيفة فقل له: إن كنت تقول: إن القرآن مخلوقٌ فلا تقربنا”. ورغم ذلك صار لأبي حنيفة من الأتباع عبر التاريخ الإسلامي، ما لا يقل، بحالٍ، عن أتباع مالكٍ، والشافعي، وابن حنبل، وغيرهم من المجتهدين! فالتكفير، كما هو واضحٌ هنا، هو مجرد رأيٍ لفرد، وليس دمغًا دينيًا، مقدسًا، نازلٍ من السماء. بل كثيرًا ما يكون رأيًا لفرد، مبعثه الأساس الغيرة، التي تقع بين أهل التخصص الواحد، ومنها تخصص الفقه.
محمد الغزالي واغتيال فرج فودة
جرى استدعاء الشيخ محمد الغزالي، بواسطة هيئة الدفاع، لكي يشهد في محاكمة قتلة الكاتب المصري، فرج فودة، الذي اغتيل في 8 يونيو، 1992. وقد أراد فريق الدفاع أن يستخدم شهادة الشيخ محمد الغزالي في مصلحة المتهمين، فجرى استدعاؤه ليشهد. قال الشيخ الغزالي: إن فرج فوده مرتد، ويستحق القتل، ولكن الذين اغتالوه، افتأتوا على السلطة، أي منحوا أنفسهم سلطة تنفيذ حكم القتل، دون وجه حق. وأردف الشيخ الغزالي، قائلا، إن الحاكم هو الجهة الوحيدة المنوط بها تطبيق حكم الردة، على المرتدين. إذ بخلاف ذلك يؤول الأمر إلى فوضى. وحين سأله فريق الدفاع عن حكم الإسلام في الذي يفتئت على السلطة، أجاب الشيخ الغزالي، بأنه لا يعرف حكمًا في الإسلام على من يفتئت على السلطة. وهكذا يا عمرو لا رحنا ولا جئنا! فقد ناقض الشيخ محمد الغزالي، برده، هذا، نفسه، بنفسه. فالفوضى التي ذكر أنها ستحدث بسبب انتحال الأفراد لسلطة الحاكم، قد تتحقق، بالفعل، بسبب فتواه هذه، التي أعفت من ينتحلون سلطة الحاكم، فيقتلون من يُقال بأنه مرتد، من أي عقوبة.
أما الشيخ يوسف القرضاوي، فلم يخالف الشيخ محمد الغزالي، فيما ذهب إليه، في تكفيره للدكتور، فرج فوده وتحليله قتله. ونزعة الاستبداد وسط من يشار إليهم بأنهم دعاة، متفشية بصورةٍ لا تكاد تستثني فردًا أو جماعة، من رافعي شعار دولة الشريعة الإسلامية. ففي الكويت، على سبيل المثال، سُئل السيد، عبد الله العلي المطوع، أحد كبار الإخوان المسلمين الكويتيين، ما إذا كان الإسلام يسمح للأحزاب القومية، والعلمانية، بممارسة نشاطها، فأجاب بقوله: “أما أن يكون في الدولة الإسلامية، من يسمون أنفسهم بـ “مسلمين”، ثم يقومون بأمور مخالفة للإسلام، ومناوئة للدين والعقيدة، فلن يقبل منهم ذلك أبدا”. وفي الجزائر، لم تترد جبهة الإنقاذ الجزائرية، في أن تتبنى، على لسان أنور هدام، أحد كبار قادتها، اغتيال الأستاذ الجامعي، الجيلاني اليابس.
الشيعة لا يختلفون عن السنة
لا يختلف حال الشيعة عن السنة، في فرمانات التكفير. فقد أفتى الإمام الخميني بقتل الكاتب سلمان رشدي، عقب نشره كتابه، “آيات شيطانية”. وقبل ذلك، ظل الإمام الخميني يفخر، طوال حياته، بالفتوى التي أصدرها، في عام 1947، بقتل المفكر الإيراني، أحمد كسراوي. ولما سئل الخميني عام 1979 عن سبب إصداره أمراً بإعدام المعارضين دون محاكمة أجاب: “لأنهم مذنبون ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم”. أما الشيخ حسن نصر الله، الرمز الشيعي السياسي الأبرز في لبنان، فقد قال عقب صدور الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، في الدنمارك: “لو قام مسلمٌ، ونفذ فتوى الإمام الخميني، بالمرتد سلمان رشدي، لما تجرأ هؤلاء السفلة على أن ينالوا من الرسول؛ لا في الدنمارك، ولا في النرويج، ولا في فرنسا”.
واضحٌ مما تقدم، أنه لا وجود لقواعد ثابتة تحكم نزعة التكفير. فالتكفير سلاح جرى استخدامه بصورٍ عشوائية مختلفة، في أزمنة مختلفة، وأمكنةٍ مختلفة، بغرض التخلص من الخصوم الفكريين والسياسيين، أو إخراس أصواتهم، على الأقل. والتكفير، بتلك الأوصاف، سلاحٌ يمكن أن يطال أي أحد، بلا استثناء. ولذلك فالمخرج من ورطته لا يكون بغير إخراج مفرداته، كليًّا، من القاموس الحي، ووضعها، وإلى الأبد، في أرفف التاريخ. غير أن ذلك، لن يتحقق بغير اجتهادٍ انقلابي منفلتٍ تمامًا من قبضة السلف، ومن سائر الأطر الظرفية التاريخية، التي حكمت اجتهاداتهم وخياراتهم. وإلا فدون التسامح الديني، والتعايش السلمي بين الناس، والنهضة الشاملة، خرط القتاد.
elnourh@gmail.com