يقولون: لا تَبْعَدْ وهــم يَدْفِنونني *** وأينَ مكانُ البُـعدِ إلّا مَكـــــانيا
غداةَ غدٍ يا لهْفَ نفسي على غدٍ*** إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا
في ذلك اللحد بشرقِ الرياض قد ثوى، عندما حان الأجل، ورافقه إلى لحده حبّ الناس والهوى، وما كان للموتِ الهيّابَ الوجِل، وما ضلّ يوماً وما غوى، كذا نحسبُه، ونرفعُ الأكفَّ أن يجزيَه اللهُ تعالى الجزاءَ الأوفى، بحقِّ حبّه للرسولِ المصطفى، ما صلّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأجزل.
انطوت حياة أستاذ تخرّجت على يديه أجيال زانها الأدب، ونغبَ العِلمَ على يديهِ من نغب، ما فتئ ينشر العلم والوعي منذ بواكير الشباب، حينها بَزَّ اللمّةَ والصحاب، في حصّة للنحوِ وأخرى للأدب. حفظ له طلابُه الودّ عقوداً من الزمان، وإن نأى بهم المكان.
كان نسيج وحده، عاش من أجلّ الناس مِقداماً لدى العطاء متراجعاً حين الثواب:
وَإنْ مُـدَّتِ الأيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أكُـنْ *** بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ
كنّا في شرخ الصِّبا الأوّل عندما قَدِمنا إلى دامرِ المجذوب (1) التي أعيت توفيق صالح جبريل فشقّ عليه تصنيفها أمدينة هي أم قرية، فتركها على (الأعراف):
أيا دامر المجذوبِ لا أنتِ قريةٌ * * * بداوتُها تبدو ولا أنتِ بندرُ
وكنّا قد بلغنا السنة الثالثة الوسطى حين أطلّ عامٌ دراسيّ جديد، كان عاماً ذا شأنٍ فقد وَفَـدَ علينا ناظرٌ جديد للمدرسة … شاهدناه عند دخوله من باب المدرسة الشماليّ يخطو في قوّة نحو مكتبه.. وكان يدفع الهواء بيده اليسرى دفعاً كأنّه يسبح…. وما لبث أن دخل الفصل ليدرّسنا.. ما كان (النظار) قبله يدرّسوننا.. وحين فعل، جمع بين الحُسنيين: اللغة العربيّة واللغة الإنجليزيّة… وكان تدريسُه متعة لا تجاريها متعة… كنّا ننتظر (الحصّة) كما كان الناس (في عهودٍ لاحقة) ينتظرون (المسلسل)… كان تدريسه خارجاً عن المألوف: عندما يقوم بالإملاء يختار موضوعاً شيقاً من أحد الكتب التي لا علاقة لها بالمقرّر، وعندما يأتي لشرح قصيدة يترك الكتاب المدرسيّ جانباً فيأتي بقصيدة الحُطيئة عندما مدح (على غيرّ ما تعوّد) إعرابيّاً جواداً داهمه ضيفٌ وهو لا يملكُ قوتَ عياله:
وطاوي ثلاثٍ عاصب البطنِ مُرمِلٍ *** ببيداءَ لم يُعرف بها ساكنٌ رسما
وأفردَ في شِعبٍ عجــــــوزاً حيالَها * * * ثلاثةُ أطفـــــــالٍ تخالُـــهمُ بَهْمَا
حفــــاة عراةً مــا اغتذوْا خبزَ مَلّة * * * وما عَرفوا للبرِّ مذ خُلِقوا طعما
رأى شبحاً وسط الظـــلامِ فراعَهُ * * * فلمّــــا رأى ضيفاً تشمّر واهتمّا
وقال هيا ربّاه ضيفٌ ولا قِرىً * * * بحقّك لا تحرمه تا الليلة اللحــــما
فقال ابنه لمّـــــــــــا رآه بِحيْرَةٍ * * * أيَا أبتِ اذبحني ويسّر لهم طُعمـا
ولا تعتذر بالعُدمِ علّ الذي طــرا * * * يظنُّ لنا مالاً فيوسعنا ذمّـــــــــا
حتى بعث الله قطيعاً من البقر الوحشيّ أمامه:
فأمهلها حتى تروّت عطـــــاشها * * * وأرسل فيها من كنانته ســــــــــــهما
فخرّت جحوصٌ ذات جحشٍ سمينةٌ * * * قد اكتنزت لحماً وقد طُبّقت شحما
فيا بِشــــــرَهُ إذ جرّها نحــو قومـِه *** ويا بِشرهم لمّــــــا رأوْا كَلْمَهَا يَدْمَى
فباتوا كراماً قد قضوْا حقّ ضيفهم * * * وما غَرموا غُرماً وقد غنِموا غُنما
ثمّ يأتينا ذات صباح حاملاً كتاباً (ليس هو المقرّر)، كتابٌ اسمه ومضمونه غريب (أصواتٌ وحناجر) ونعلمُ لاحقاً أنّ مؤلفه هو شقيقه الذي رحل، العلّامة الدكتور أحمد الطّيّب أحمد، وننجذب إلى قراءته بذلك الصوت المفعم بالقوّة أيّما انجذاب، فيقرأ علينا أنّ سيّدنا العبّاس عمَّ رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – كان يريد أن يُحذّر قريش من خطر قادم فأطلق مع الفجر لحنجرته العنان (وا صباحاه)… فأسقطت النساء الحوامل.
أو يأتي بمجلة العربي ليقرأ لنا مقالاً طبيّاً علميّاً للدكتور أحمد زكي: (الحُمّى داءٌ ودواء) ولا زلت أذكر تلك العبارة التي وصف بها أحد من تداوَوْا بالحمى في نهاية المقال، فقال إنّه صار (يُزاحم الناس بالمناكب).
وإن أنسَ لا أنسى تلك القصيدة العظيمة التي أتحفنا بها ذات صباح، إحدى عيون الشعر العربيّ التي رثى فيها مالكُ بن الريب التميمي نفسَه عندما لدغته حيّة كانت في خفّه على مشارف (مروْ) عاصمة خراسان:
ولمّــــــا تراءت عند مَرْوَ منيّتي * * * وخلّ بها جسمي وحــانت وفاتيا
تفقدتُ من يبكي عليَّ فلم أجد * * * سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا
وأشـــــقرَ خنذيذٍ يَجُـــرُّ عنانَه إلى * * * المــاءِ لم يترك له الدهرُ ساقياً
ولكن بأطــــــرافِ السُّمينة نســـوةٌ * * * عزيز ٌ عليهنّ العشــــيّة ما بيا
…
فيـــا صاحبيْ رحلي دنــــا الموتُ فانزلا ** * برابيةٍ إنّي مُقيـــمٌ ليـــاليا
أقيمـــــا علىّ اليــومَ أو بعض ليلةٍ *** ولا تعجلاني فقد تبيّنَ مـــا بيـــا
وقوما إذا ما استُلَّ روحي وهيّئا ** * لي السدرَ والأكفان ثمّ ابكيــا ليـــا
وخطّــَّــا بأطــراف الأسنّة مضجعي* * * ورُدّا على عينيّ فضل ردائيا
ولا تحسُداني بارك الله فيكما *** من الأرضِ ذات العرض أن تُوسِعَا ليا
وكانت الجائزة الكُبرى والمفاجأة الأعظم أن أتى إلينا ذات نهار في الفصل بصديقه وصديقِ أخيه الدكتور عبد الله الطيب، أتى إلينا – من كنّا نعرف أنّه مفسّر القرآن – يرتدي قميصاً أخضرَ اللونِ وبنطالاً قصيراً (رِدا) أبيض اللون. وقال لنا الناظر إنّ الدكتور مفسّر القرآن سيشرح لنا إحدى القصائد:
وطفقَ الدكتور يقرأ ويشرح قصيدة شاعرِ المعرّة :
يا ساهرَ البرقِ أيقظ راقدَ السّمُرِ *** لعل بالجِزعِ أعواناً على السهرِ
وإن بخلتَ عن الأحياءِ كُلِّهِمِ * * * فاسقِ المطيرة حيّاً من بني مطر
يومها لاحظتُ أنّ الدكتور عبد الله الطيّب ينطقُ ( الراء ) بلثغة تكادُ تكونُ مخفيّة.. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت أقلّده في حديثه بما فيها تلك اللثغة المخفيّة. وحلّ في فؤادي حبّه، كما حلّ في قلبي من قبلُ حبّ أستاذي عمر الطّيّب. وعندما بلغنا جامعة الخرطوم كنتُ أُضحّي بمحاضرة الفيزياء لأنّها كانت تتطابق زماناً مع محاضرة البروفسور عبد الله الطيّب مع ذوي الجدّ من (دفعتي) الذين صاروا إلي كليّة الآداب.
أمّا تدريس أستاذي عمر الطّيّب للغة الإنجليزيّة فما كان أقلّ شأناً من دُرره التي كان ينثرها بالعربيّة. وكنتُ أحاول أن أتشبّه بأستاذي فأحببتُ اللغتين معاً، وصرتُ مولعاً بوضع (الشدّة) في موقعها كما كان يفعل. وهو أمرٌ لازمني منذ ذلك العهدِ وما انفكَّ رغم أنّ مسار الدراسة نأى بي إلى الطريق العلميّ.
ثُمَّ نأت بنا تصاريف الزمان، إلا من لقاء جوار بيت الله الحرام، وما قرّبتنا بعدها إلا وهو طريح الفراش في المستشفى الجامعيّ بمدينة الرياض، ووجدُته – كما كان دوماً – محبّاً للناس كلِفاً بالأدب واللغات حافظاً لأشعار كان يرددها علينا قبل عقود تصرّم أوّلها وآخرها. ووجدتُ ذاكرة وعت أسماء طلّابه في ذلك الزمان النائي. وجدت نفس ذلك الرجل الحاني المخلص الذي كان قد جمع بين الوُدِّ والإلفة والحزم… الذي يُجبرك علمه وقوّة شخصيّته على احترامه، لم يكُن يحملُ العصَا، ولم يكن يعصِيه أحد. وجدتُه قويّاً في المرضِ كعهدي به في الشّدّة… غير هيّابٍ ولا وَجِل يُصلي في سريره ويذكر الله كثيراً ويحنُّ إلى أيّام خُضرٍ قضاها جوار تلك القبّة الخضراء – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام – في المدينة المُشرّفة التي ما فتئ يعود إليهاعاماً بعد عام حتى بعد أن نأت به الديار. كان يعودُ لزيارة تلك الروضة الشريفة – التي بشّرنا صاحبُها، صلوات الله وسلامه عليه – أنّها من رياض الجنّة، فيتزوّد من فيضها ويختزنُ .. فيزول عنه ما به من همٍّ أو حزن.
رحمَ الله أستاذنا عمر الطيّب وجزاه خير ما جُوزيَ أستاذٌ عن طلابه، وبعثه الله مع من يحبّ في زمرة المصطفى – صلوات الله وسلامه عليه – والمقرّبين من صحابته ذوي الجدِّ، وأهل بقيع الغرقد، لأنّه وإن كان في الرياض قد ثوى، فإنّ مدينة رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – كانت هي الهوى.
اللهمّ إنّ عمراً قد أتاك يحملُ قلباً وسع كلّ من عرف من البشر، واصلاً للرحم، فاقبله في فردوسك الأعلى وافسح اللهم له في الجنان، واجعلِ البركة في ذريّته والصلاح، إنّك سميعٌ كريمٌ مجيبُ الدعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
الرياض أبريل 2018م