لو كان الأمر بيدي كنت اتخذت قراراً بتقليص نظام الحكم الفيدرالي المطبق في السودان حالياً إلى أدنى مستوى، وربما إلغائه واستبداله بنظام أقل تكلفة وأكثر فعالية، فهو باب واسع من أبواب الهدر والتبديد للمال العام، إن لم يكن الفساد، لا بد من إغلاقه.
ولا يخفى أن قرارا كهذا يفترض حل المشكل السياسي الماثل في ظل نظام الإنقاذ ودولته العميقة فالنظام الفيدرالي الحالي أحد أبرز مقوماته. وهو بلا شك هيكل إداري هلامي باهظ الكلفة ابتدعته الإنقاذ وطبقته في ظروف معلومة، ويشتمل على مستويات ووحدات وأجهزة كثيرة ومتعددة. فإضافة إلى رئاسة الجمهورية يضم برلماناً اتحادياً وحكومة اتحادية بوزاراتها وأجهزتها ومؤسساتها، كما يضم (18) ولاية بولاتها ومجالسها التشريعية ولجانها، وحكومات ولائية بوزاراتها، ومحليات (عددها 133) وعشرات الوحدات الإدارية التابعة لها تستنزف أموالا طائلة.
كيف يمكننا أن نفهم أن معالجة الضائقة الاقتصادية الخانقة التي نعايشها اقتضت محاولة لتقليص الحكومة المركزية والحكومات الولائية بتقليل عدد الوزراء للوصول إلى “حكومات رشيقة” ولا يعاد النظر في الحكم الفيدرالي نفسه من أعلى قمته (رئاسة الدولة) إلى أدني مستوياته (الوحدات الإدارية) ليكون نظاماً رشيقاً؟! ربما يبرر الإنقاذيون اختيار هذا النظام عندما تم تطبيقه كضرورة اقتضتها ظروف سياسية واقتصادية وأمنية مختلفة حين كان السودان بلداً واحداً شماله وجنوبه قبل كارثة الانفصال، وحين كانت موارد البترول تتيح الصرف على كلفته العالية. أما وقد انفصل الجنوب وفقدنا أكثر من 80% من إيرادات البترول، وضربت البلاد مشكلات اقتصادية مستعصية على الحل، فما الداعي لاستمراره؟!
هذا النظام الإداري المترهل الباهظ الكلفة يذكرنا بقصة “النملة المجتهدة في الغابة المجنونة”! كانت نملة مجتهدة تعمل بهمة ونشاط رآها الأسد تعمل دون أن يشرف عليها أحد، فعين الصرصور مشرفاً عليها، وكان أول قرار له توظيف العنكبوت لمراقبة عمل النملة، فعين العنكبوت ثلاثة من الكتبة، واشترى جهاز كمبيوتر وطابعة ليزر ودواليب لحفظ تقارير دوام النملة وإحصاءات انتاجيتها ومحاضر وقرارات اجتماعاته مع رؤسائه. ولاحقاً تقرر تعيين النحلة مديرة لمكتب الأسد، وتم تعيين مدخل بيانات وشراء مكتب فاخر ودواليب وجهاز كمبيوتر وشاشة بلازما وموبايل أي فون. كذلك تم تعيين الناموسة سكرتيرة للصرصور لطباعة التقارير وحفظ الملفات وتم شراء أثاث جديد ولاب توب وموبايل جلاكسي. ونظرا لكثرة التحليلات المطلوبة وأوراق المؤتمرات وورش العمل عن أداء النملة ودوامها، تقرر تعيين الذبابة مسؤولة عن قسم نظم المعلومات وتم تعيين محلل نظم . وكُلِفت الجرادة لخبرتها للقيام بتطوير نظم أداء النملة ووضع الموازنة السنوية والخطط الاستراتيجية، وتم تعيين مساعدين للجرادة. وعندما أدرك الأسد ارتفاع التكاليف الإدارية بصورة مزعجة والعجز في الإيرادات الناتج عن تدني أداء النملة، عين البومة مستشاراً له لترأس فريقا من الاستشاريين وأوكل إليها دراسة الوضع لتقليص النفقات. وبعد اكتمال الدراسة تم عقد ورشة عمل لاستعراضها وادخال التعديلات.وبعد رفع الدراسة تبين أن المشكلة الأساسية هي تعدد المستويات الإدارية وتكدس العمالة فقرر الأسد فصل النملة لقصور أدائها وضعف إنتاجيتها!
لا نسوق هذه القصة كطرفة للضحك، لكن النظام الإداري الحالي هو في الحقيقة شيء أقرب من هذا. فكلفة هذا الجهاز الضخم المترهل بمكوناته في المركز والولايات، جميعها على ظهر المواطن المغلوب على أمره، وعلى حساب الخدمات التي يفترض أن تقدم له. وليس أدل على ذلك مما يعرف ” بالجبايات” المتعددة التي يشتكي منها الناس وطالت أضعف فئات المجتمع، تفرضها المحليات ووحداتها الإدارية لتغطية العجز في الموارد المخصصة لها لتغطية مصاريفها الإدارية ولدفع رواتب وامتيازات أرتال من الموظفين. ولهذا نرى التقصير واضحا في الخدمات العامة مثل جمع ومعالجة النفايات، وخدمات النظافة، وحفر وتجهيز المجاري في موسم الخريف، وإصلاح الطرق العامة الرئيسية دعك عن الطرفية والتي داخل الأحياء، وغير هذه من الخدمات العامة التي يحتاجها المواطنون وتشمل المواصلات والصحة والتعليم والتي أصبح واقعها مزريا بكل المقاييس.
في بدايات دراستنا لإدارة الأعمال علمونا مفاهيم من أهمها الفعالية (Effectiveness) والكفاءة (Efficiency). الفعالية في أبسط معانيها هي إنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف، والكفاءة هي إنجاز تلك الأعمال والأهداف بأقل تكلفة ممكنة. وهذا يعني بالضرورة أن تجتمع الفعالية والكفاءة في إنجاز الأعمال والتي هي في هذه الحالة خدمات تقدم للمواطنين، وعليه قد يكون الجهاز الإداري فعالا وليس كفءً. وهي حالة نزعم أنها تنطبق على هياكل نظام الحكم الفيدرالي المطبق حاليا في البلاد، هذا إن لم نقل إن كثيرا من أجهزته يفتقد للفعالية والكفاءة معا.
يضاف لاعتبارات الفعالية والكفاءة أن النظام الفيدرالي الحالي كرس الجهوية والقبلية بصورة لافتة أكثر من نظام مايو حين طبق الحكم الإقليمي. فكما هو معلوم كان الضباط الإداريون والمعلمون والمهندسون والأطباء والزراعيون والمحاسبون وغيرهم من أصحاب المهن في الوظائف العليا، يُنْقَلون ويُكَلَفون بالعمل في مختلف أقاليم السودان، مما يحقق التمازج والتداخل والتواصل ويعزز الشعور بالانتماء للوطن وليس للجهة أو القبيلة. لكن نظام الحكم الفيدرالي الحالي أتاح، وبصورة ملحوظة، لسماسرة السياسة شغل الوظائف في مستوياته المختلفة عن طريق ما عرف “بالمحاصصة” واقتسام كيكة السلطة في المركز والولايات مع الحزب الحاكم، وأصبحت جل الوظائف القيادية في كل ولاية حكرا على أبناء الولاية.
كذلك النظام الفيدرالي الحالي همش دور ضباط الحكم المحلي الذين كنا نعرف أداءهم المهني المتميز في البلديات (في المدن) وفي المجالس الريفية (في القرى والأرياف). فإدارة الحكم المحلي علم يُدَرَس وتتم ممارسة مهامه بأساليب ومعايير محددة لخدمة الناس، وهو ليس مجالا لتوظيف السياسيين والحزبيين وغيرهم ممن لا علاقة لهم به كمهنة أو ممن يمكن أن يكونوا عالة وعبئا على الموارد التي ينبغي أن توجه للخدمات. ولقد عرف السودان في سابق عهده أفذاذاً من الإداريين ممن عملوا في إدارة الحكم المحلي في مستوياته المختلفة، وقدموا خدماتهم لمواطنيهم بكل تجرد وإخلاص، حين كان الحكم المحلي يقوم على ركائز وأسس موضوعية. لكن واقع الحال الآن أن معظم الوظائف القيادية يشغلها السياسيون وضباط الشرطة والجيش المتقاعدون وغيرهم ممن لا علاقة لهم بالحكم المحلي كمهنة.
لا يخفى أن النظام الفيدرالي الحالي خلق واقعا إداريا نعايشه ولا بد من التعامل معه بموضوعية، وهو واقع يتداخل مع اعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية ودواعي أمنية، ولذلك ربما يرى بعض الناس ضرورة استمراره، وهنالك دعاوى يسوقونها منها تقصير الظل الإداري وتوفير الخدمات للمواطنين وإتاحة الفرصة لهم للمشاركة في إدارة شئون مناطقهم وغير ذلك من المبررات التي تفيض بها بعض أوراق المؤتمرات وورش العمل التي عقدتها الإنقاذ لدراسته. ويتخوف البعض أن إعادة النظر في الحكم الفيدرالي الحالي بشكل جوهري أو إلغائه واستبداله بنظام بسيط ورشيق وأقل تكلفة سيتسبب في خلق عطالة كبيرة. لكنني أزعم أن كل هذه حجج ومبررات لن تستعصي على الحل، وأنه أصبح من الضروري تقليص هذا النظام المترهل أو إلغائه واستبداله بنظام أكثر فعالية وأقل تكلفة. وأنا أزعم أيضا أن الصعوبات المترتبة على ذلك أقل بكثير من تكلفة استمراره وأضرار استنزافه للمال العام، لاسيما ونحن نعايش ضائقة اقتصادية كبيرة وشحا غير مسبوق في الموارد.
في ضوء هذا وبأمل تجاوز نظام الانقاذ ودولته العميقة ، لو كان الأمر بيدي، سأعتمد وأنفذ – رغم أي محاولات للتثبيط والتخذيل وافتعال الصعوبات – مقترحا أزعم أنه البديل المناسب، يهدف لتقليص أجهزة الدولة في المركز، ولتقليل عدد الولايات والعودة إلى خمسة أو سبعة أقاليم يكون على رأس كل منها حاكم منتخب مسؤول لدى رئيس الدولة، لن تكون هنالك مجالس تشريعية أو حكومات ووزارات ولائية، وسيكون تحت كل إقليم محافظتين إلى ثلاثة محافظات، ويكون تحت كل محافظة أقل عدد من المجالس البلدية والريفية (وحدات إدارية) بمعايير المساحات وعدد السكان والخدمات المطلوب توفيرها للمواطنين وغيرها. سيكون الضباط الإداريون ذوو التأهيل والخبرة هم رأس الرمح في هذا النظام لاستعادة حيدة وشفافية الخدمة العامة والبعد بها عن المجاملات والترضيات السياسية. وسيكون لكل إقليم “مجلس تنفيذي” من التكنوقراط يرأسه حاكم الإقليم ويضم المحافظين وضباط المجالس الريفية والبلدية ورؤساء المصالح والأجهزة الخدمية وقيادات الشرطة والأمن والمشاريع الانتاجية الكبرى في الإقليم وغيرهم، للإسهام في وضع وتنفيذ الخطط والبرامج في المجالات المختلفة بالتنسيق مع الوزارات والأجهزة المختصة القومية. سيتم تحديث التشريعات لضبط العلاقات الإدارية والمالية بين المركز والأقاليم ولتحديد صلاحيات المجالس التنفيذية، وسيتم دعم النظام بالإمكانيات المادية والبشرية التي ستتوفر من إلغاء النظام الحالي المكلف، ولن تكون القبلية ولا الجهوية معياراً للاختيار للوظائف العامة بأي حال من الأحوال.
هذا إن كان الأمر بيدي، أما وأنه ليس كذلك فالشكوى إلى الله.