ومضي من الزمان زمانٌ، طال أم قصُر، لا أعرفه..وتدفق النهرُ، وإنبلج صباحٌ، وخنّٙقتِ الشمسُ مرتين..وعدّٙ الناسُ الدهرٙ، وقد سار سيرورته، وإستدار كيوم الخلقِ الأوّٙل..لا أعلمُ علومٙ العدِّ، ولا الحساب، ولا أذكرُ إلا ما قلتُ من وصايا شيخي، ومولاي، وإن كان أكثرها مما أُنسيتُ، وما أنسانيهُ إلا الشيطانُ أن أذكرَه.. وإنطلقتُ في ديجور النّٙـزٙقِ لا ألوِي علي أحد..ولا أهتمُّ لأحد، ولا يستهويني من دنياواتهم شئ..فمن إرعوَي فلنفسه، ومن تعشّق فعليها..وما أنا عليهم من المشفقين..
يردحون، ويرزحون، ويبكون، ولا يتوبون !!
ثم أني قد تذكرتُ أنه قال إنِّي سأُُمتٙحن..ثم أنّي أُنسِيتُ كلّٙ شئٍ من بعد.. فـِعلٙ الشيطانِ الرجيم، بعباد الله المٙخلٙصين !!
وذاتٙ إنبثاقٍ من حيثُ لا حيث، جاءتني (لوريتا) مع بنتيها، وزوجِها للتطعيم..هكذا دون مناسبةٍ، وبلا توقُّعٍ، وبلا ميعاد..وهكذا أخذنَني-الأمُّ وبنتاها- وداهمنني علي حين غِرّةٍ مِني، وإجتياح !!..
لوريتا هذه إمرأةٌ كالفرسِ الجفَّالةِ النكَّاسةٌ، قليلة الصهل، مطهمةٌ جموحٌ، وتعيشُ علي ضِفافِ شعرِها الأسودِ المُسدٙل.. تتغزّلُ فيه، وتعزفُ له، وتُدلِّلُــه، وتناغيه.. تتفيّأُ ظلاله، وتتنسم عبقٙه، وترقصُ علي موسيقاه.. ويبادلها شعرُها هو الآخرُ عِشقاً بعشق، وغزلاً بغزل، وتهدّلاً، وتموجاً، وتثنّي..أعجميةٌ، غضّةٌ، بضّة.. متخصصةٌ في جندلة (المَرَدةِ الغٙفٙلة)، والعصفِ بهم، ثم الإجهازِ عليهم !! تختارُ لوريتا موسيقي شعرِها بعنايةٍ، ويختارُ شعرُها موسيقاه بعربدة، ويختارانك، معاً، حين تقفُ هي علي مرمي دهشةٍ منك..وعندئذٍ، فأنت لن تستطيعٙ إلاّ التململَ، والتسكُّع علي مقربةٍ من مصانعِ الجمالِ الأبريزيِّ المحْض، الرافلِ علي كتفيها كحُلمٍ شقيٍّ، عصيِّ التحقق!!..لا تفتأُ لوريتا تلاعبُ شعرَها ويلاعبُها، وتهدهدُه ويهدهدُها، وتعابثُه بفصوصِ عُنّٙاب البللور (المقمّعةِ) بالرُّواء، والإمتشاق، والتّنعُّم ويعابثُها..
وحين تراك جاثياً علي رُكبتيْ ضعفِك، وخَوَرِك -وإذ ذاك بهاءُ صفائها يتعانق مع عنبرِ جبروتها الأسوَد- تشيحُ عندئذٍ عن بقاياك بعينيها الكسولتين، العابثتين، إلي أفقٍ غير بعيد..وبلا تحديق.. وكأنها تتركُ لك فقط فرصةَ أن تختار بين مواصلة التشظّي بين ضِفافِ سوادِها المتهدّل، أو في عمقِ سوادِ وبياضِ ضفتيْ عينيها..هي لا تختارُ لك، ولا تأبهُ لك، ولا تعبأُ بك..هي فقط تختارُ مسافةَ أن تُطلقَ عليكَ ضارياتِها، وضُرَّها، وإضرارَها.. وتترُكُ لك حريةَ أن تختارَ أنت بأيِّ عاصفاتِ وسائلِها تودُّ أن يُجهزَ عليك..!!!
ومعها ذواتا أفنان.. نجلاوان.. كبراهما علي مقربةٍ من عشرين.. وصغراهما ليست ببعيدةٍ عنِ عشرين.. بضّتان، باسقتان، مُهرتان، نضّٙاختان.. تُشِعّان بنضارِ (الكاريبي)..تتدربان علي بهاءِ لوريتا كيف تجندلان.. ميادتان..علي هوينا الشباب تتقافزان..لا تأبهان..تعْلٙمان، ولا تعلَمان..صفراوان عسجديتان..
زهراوان..رائعتان..نضراوان..لكلٍ طعمُها، وذوبُها، وذوقُها.. تتشابهان، ولا تتشابهان.. كحلاوان.. طَفْلَتان، لكأنّما صيغتا من ندي الورد، وعبقِ القَرَنفل، وأنفاسِ اللَّيمون..تنضحانِ بالصِّبا، والزّهْو، والعنفوان..فراشتان، بألوان قوسِ قُزح..عصفورتان.. مُترعتان..ريانتان، صادحتان بعُجمة الكاريبي، وبذخِ الكاريبي، ونارِ، ونورِ الكاريبي.. عجماوان..بلسان الكاريبي.. فصيحتان..قرّاءتان..ضحّاكتان، طلقاوان، غمَّازتان بلسان الأمريكان..تلميذتان، نابهتان، متدربتان علي ألقِ (لوريتا).!!!
أخَذٙتهم -أربعتٙهم- مُساعِدتي إلي غُرفةِ التطعيم الضيّقة، ذاتِ المقاعدِ الثلاث..عبّأَتْ بياناتِهم، وأكملت إجراءاتِهم، وأجلسٙتهم.. ثم جاءتني، مُوعِزةً إليَّ أنهم بإنتظاري !!
(لوريتا) وحمامتاها ينتظرنني؟!!..
(يا فليلك يا ود خديجة)..لو كانت لوريتا وحدها لَكَفَت؛ ولأصبحتُ من المُجهجهين..أوَ حمامتان معها تُعزِّزان؟!
قلتُ في نفسي قبل أن أدخُل عليهم: فلأبدأ بلوريتا -هذا الشيطان الرجيم- فلأبدأ بغلاّقةِ الفِكَر، جهجاهةِ الفَهَم، ضعضاعةِ التركيز..فلأبدأ بها أولاً هذا الشيطان الأكبر..وأبعِدُها من مسرحِ الغنجِ، والإغراء، والتدلّل، والشعَرِ المُسدٙل..أُطعّمُها أولاً، وأخرجُها من الغُرفةِ، ومِنِّي.. ثم يتبقي لي بنتا الشيطانة، وزوجُ كبيرة الشياطين، وهؤلاء مقدورٌ عليهم (بالحَسبنةِ ونعم الوكيل)
دخلتُ، وسلّمتُ عليهم جميعاً بأسمائهم، وعرّفتهم بنفسي، كما تقتضي الإجراءاتُ هنا..نطّت لوريتا وقالت لي: طبعاً نعرفُك جميعُنا مستر مُهمّد..فأنت “صيدالُنا” المفضّل(our favorite pharmacist)..ثم ركّزَتِ النظرٙ فيَّ مطوّلاً حتي قلتُ ليتها أشاحت.. وأحسستُ بدبيبِ عينيها علي البالطو، وعليّا، كدبيبِ الإنتشاء، أو أرقَّ دبيباً.. قلتُ في سرّي (اللهُ أكبر عليكِ يا لوريتا)..ولكني شكرتُها علي إطرائِها لي، وقلتُ لهم بإقتضابٍ: مرحباً بكم معنا، مجدداً، عائلة السيّد فرانسيسكو..
ثم قلتُ موجّهاً كلامي إلي السيدة لوريتا: ربما يكون من الأفضل أن أبدأ بك سيدتي.. أطعّمُك أولاً، ثم تخرجين لتُتيحي مكانَك لزوجكِ، السيد فرانسيسكو، الذي ظلّ واقفاً.. قالت: لا..بل إبدأ به هو أولاً..وليخرج هو بعد ذلك من الغرفة إذا شاء!!..نظرتُ إليه، ورأيتُه يومئ إليَّ برأسه موافقاً..قلتُ في نفسي: (الله يخيّبَك يا الباطل) !!
بدأتُ بالسيد فرانسيسكو كما أرادت لوريتا.. وكانت المٙهمةُ سهلةً جداً..كفكف عن ذراعِه، وكفكفتُ عن ساعديّ، ثم غرزتُها فيه بلا هوادة..لحمُه كلحمِ (الجٙخٙس)..قاومني قليلاً وقاومتُه.. ثم أقررتُها فيه إلي أبدِ ذراعِه..فقام غير آبهٍ، يتحَكحَك، وإنزوي إلي ركنِه القصِيِّ بالغرفة الضيقة، ولم يشأ أن يخرج كما أرادت له لوريتا..!!
ثم أنِّي رأيتُني كأني بين اليقظة والهذَيان، ورأيتُ سيدي ومولاي مستعرضاً نحوي غيرَ هيّٙاب، وبدا لي كأنه يتجلَّي في شطحةٍ متصوفةٍ، ويرتعد..ودثم يتمدد، ويستجمع، ويزفرُ أنفاساً حرَّي كأنه يكتمُ وجداً ويتحرَّق.. فساءلتُه، وسألتُه، وبحلقتُ في لحيته المخضّبة بالدمع، والمهابةِ فما زاد عن قوله: (كاريب..كاريب لا.. لا) فقلتُ له، وقد إقشعرّ جلدي، وخفق قلبي، ورأيتُني كأني بين غفلةٍ وإرتياب، وأنا أتعلّقُ بأثوابه، وأجثو، ورُكبتايَ إلي ركبتيه، وأستعطفُه، وأترجّٙاه وأقول: هل هنّٙ من بهاءِ (كاريب) الذي ذكرتَ سيدي، ومولاي؟؟!! فما زاد أن ردد ثانيةً: (كاريب..كاريب.. لا.. لا)..ثم خفق بجناحين، عريضين، غطّي بهما ما بين الباب، والحيطان الأربع، حتي وجدنا (جميعُنا) بَرداً في وجوهنا من أثرِ هُبوبه، ثم إنسلّ كالنورِ بعيداً، في أفْقِ الخالدين..
وأنشأتُ أردِّد مثله، وأهذي، (كاريبُ..كاريب لا..لا)..
وأجهشتُ جاثياً بالبكاءِ كما الأطفال !!