المسّاح (أمي من حيث الأبجدية)، وهناك إجماع على أنه لم يكن (ترزي درجة أولى) إذ لم يصبر على تعلم الصنعة.. ولكن الرجل نموذج للذكاء الفطري والإبداع الجريء والشأو البعيد في التصرف باللغة وابتداع الفكرة الغنائية.
وقد اكتسب على أحمداي لقب المسّاح من (الحوامة الكتيره) في مدينته ود مدني.. يمسح الأرض شأن العاملين في مهنة المساحة (الجنزرجية) ولكن بدون أجر.. بحثاً عن مواطن الجمال.. وهو مثل ابن زريق البغدادي (كأنما هو في حلٍ ومرتحلٍ.. موكّلٌ بفضاء الله يزرعه)!
لو لم يكن له من الأغنيات غير (غصن الرياض المايد) وحدها، لكفاه دليلاً على علو كعبه.. حتى عند مقارنته برصفائه من الشعراء الذي طافوا على المدارس وكلية غردون.. ولا تدري من أين أتى بمثل قوله: (عانيت في ليلي هواك صنوف واحايد/ مشكلة بين هواي وجفاك.. وأنت محايد)!! لأنه انتهى إلي معني دقيق فهو قد فصل نفسه عن الهوى وهذا مذهب في التجريد، وفصل محبوبه عن الجفاء، وجعل المعركة بين هواه هو، وبين جفاء محبوبه، ولكن ذات المحبوب وقفت على الحياد..! وهو معنى قريب من توصيف آخر جاء في أغنيته (بالله يا نسيم الصبا) حيث يقول في معنى غير مسبوق (بهجة جمالك حاجبا/ عاجباك روحك.. وعاجبا)..فالإنسان “العاجباهو روحو” معنى معروف، ولكن المشكلة في أن تكون الروح معجبة بصاحبها! كذلك له معنى جميل عندما جعل من حبه نديداً له في النشأة..(أنا وحبك ترعرعنا ونشأنا ندايد)..!
ليس هذا هو كل إبداعه فـ(نغيم فاهك يا آم زين دواي) من روائعه، وفيها استخدام النُهى بمعنى جوهر العقل، وفيها مخاطبة لنجم السُهى وهو النجم الساهر مع المحبين: (أقيم ليلي واحسب سُهاي/ يغيب عقلي وافقد نُهاي) وفيها استخدام “بان” بمعنى ابتعد وليس معنى “ظهر” الشائع، وكذلك الإشارة للغراب باعتباره نذير فراق (طريت البين ليه يا غراب/ صياحك دا فراق يا خراب/ ديار آم زين كانن قراب/ غبن بانن تحت السراب) ومن أبدع شواهد هذه الأغنية في معاني الحب، معنى أن الحب (حزم أمتعته) وتوجّه إليه.. (رقّ جسمي وصابو انتحال/ عليّ حبك حمل الرحال)! طبعا هو مثل إضرابه عندما يشيرون إلي المعنى الظاهر ويعنون الكامن.. فجاء بإسمه وكأنه يعني صفة ملازمة (أنا الحجة بحل مشبكا/ أنا المسّاح دمع البكا)..!
كما أشار إلى البهجة بمعنى الفرح والانبساط وهو يقصد (بهجة) الفتاة المصرية أو الأرمنية التي سحره جمالها..! (لي شوفتك مباح دمي العزيز ما غلالك/عُدتِ وعاد هناي..يا البهجة هلّ هلالك).
الرجل ماكر في عدم الاستخدام المباشر للمفردات، بل استخدام القرائن؛ فهو في أغنيته (ظبي الخدرِ الما شاف قفار) عندما أراد أن يقول إن ريق محبوبته مثل “عسل النحل” أورد صفة النحل الطنّان الدوّار وهو يعرف أن العسل يأتي من الخلية (من لحظاتو سبب الودار/ وريقو خُلاصة الفي خليتو دار)..! طبعا أغنياته الأخرى إنتَ بدر السما في صفاك، والشاغلين فؤادي، وطول يا ليل على الباسل، وزمانك والهوى أعوانك.. لا تحتاج إلي تنويه!
هذا الرجل الذي كان يسير دائماً مغبّر القدمين في (هندام رقيق) غير عابئ بالتأنق، كان من أعلام النهضة الغنائية، وسارت أغنياته من البداية مع الشبلي وعبد الله الماحي والأمين برهان والشبلي وعوض الجاك ثم تلقفتها الألسنة والحناجر ..من أصدقائه الخُلص الشاعر الكبير محمد علي عبدالله الأمي.. وقد خصه بالشكوى في أغنية الشاغلين فؤادي: (ناشد القول أخوكم المسّاح علي/ حالتو صعيبه خالص يا محمد علي)!!