بدأ أسبوع السودان في أديس أبابا، الذي نوهنا في هذا الباب بموعد انطلاقه، بعد أن تضافرت جهود إقليمية ودولية وداخلية لإعادة فتح ملف الأزمة السودانية بأسلوب جديد، يعالج الأزمة الشاملة، عبر مسارات ثلاث:
المسار الأول: أزمة دارفور عبر منبر الدوحة والوساطة القطرية،
والمسار الثاني: التعامل مع أزمة الولايتين، عبر دور جديد لحكومة جنوب السودان ورئيسها سلفاكير، باعتبار أنه الأقدر على توحيد رؤى حملة السلاح، الذين انقسموا على بعضهم، وشكلوا فريقين متواجهين، وإذا نجح سلفاكير في مسعاه، تفاوض وفد موحد مع الحكومة،
أما المسار الثالث: فمتروك للتفاوض حول متطلبات السلام والتحول الديمقراطي، بمشاركة المعارضة السياسية غير المسلحة، ممثلة في السيد الصادق المهدي، الذي تصرّ الحكومة على أن تحاوره بوصفه رئيساً لحزب الأمة، بينما يتمسك هو بصفته الثانية رئيساً لتحالف نداء السودان، الذي لم توجه له دعوة!! – وما زالت الخلافات قائمة حول تمثيل نداء السودان في المفاوضات.
ولكن الوضع في السودان وصل إلى درجة الانفجار، وربما يرى البعض أنه تجاوز الانفجار إلى التشظي، وذلك بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي استحالت معها الحياة بالنسبة لأغلب المواطنين، وما عادت دخولهم تكفي لمواجهة أدنى ضروريات الحياة، مع إحساس متزايد بأن السلطة الحكومية لا تحس بمعاناتهم، ولا تشعر بآلامهم، بل ولا تضع الأمر في مقدمة أولوياتها، وتتصرف كما لو كانت الحياة تسير سيراً عادياً،
بينما المواطنون يتكدسون في صفوف الخبز الممتدة أمام المخابز أو أمام نوافذ الصرافات، ليحصلوا على شيء يسير من أموالهم المودعة لدى المصارف، والتي من المستحيل استعادة أي جزء منها، بسبب أزمة شحّ السيولة النقدية، التي لا تقل حدة عن شح الخبز، أو شح المواد النفطية، حيث تصطف صفوف العربات التي تبحث عن الوقود أميالاً أمام محطات خدمتها.
الموقف يهدد بانهيار تام، وقيمة العملة الوطنية تتردى كل صباح، مما يجعل الحديث عن ضرورة إدارة حوار عقلاني يحدث تغييراً جذرياً في الأوضاع، وينهي احتكاراً للسلطة دام ثلاثة عقود من الزمان، استحال فيها المواطنون إلى رعايا، وسدت أمامهم منافذ المشاركة في السلطة والثروة، واحتكرت كلتيهما – الثروة والسلطة – فئة قليلة حاكمة ومسيطرة، دون أي استعداد للتخلي عن احتكارها، أو أي رغبة في تداول سلمي يضع حداً للأزمات المتكررة،
وبالتالي، فإن أي مشروع للحل السلمي التفاوضي سيواجه أفقاً مسدوداً، وفي كل المحاولات السابقة كانت المشكلة أن النظام الحاكم كان يريد أن يحتفظ بالكيكة بأكملها، وكل التغيير الذي تريده السلطة هو أن يقبل الآخرون بالالتحاق بركبها والسير وراءها، دون أدنى نية أو قبول لمبدأ تصفية سلطة الحزب الواحد، لصالح كافة المواطنين.
هذه هي العقدة التي لم يتطرق إليها أولئك الساعون لهذه المبادرة الأخيرة، وهي بالضبط العقدة التي تبطل مفعول المنشار، وتجهض أي مبادرة للحل السلمي.
ما من شخص عاقل تُطرح أمامه فرصة حل جذري لأزمات وطنه عبر مسار سلمي تفاوضي فيرفض ذلك، وليس من المنطقي أن يتعثر مثل هذا المسعى لو كان صادقاً، المشكلة أن الأجندة التي يتوهمها الوسطاء ليس لها مكان في أجندة الحزب الحاكم، ولو كان جاداً في مسعاه لما أقدم – والمفاوضات تبدأ في أديس أبابا – على تعديل أساسي في الدستور، بهدف تكريس سلطة ظلت قائمة ثلاثين عاماً، وأوصلت السودان إلى ما هو فيه الآن.
لو كانت فكرة الحل التفاوضي واردة في أذهان منسوبي الحزب الحاكم، لأجلوا مشروع تعديل الدستور، ريثما يعرفون رأي محاوريهم في هذه الجولة الجديدة من المفاوضات في أمر تعديل الدستور، وبالطبع هو موضوع يستحق أن يتصدر أي أجندة للتفاوض حول المستقبل.
الحزب الحاكم يعرف ما يريد، وعندما طَرح هذا الاقتراح أمام البرلمان، فهو يريد أن يرسل إشارة للكافة، مؤداها أن سقف التغيير الأعلى هو استمرار هذا النظام بكل أسسه وهيمنته، ومن أراد أن يلحق بالركب فمرحباً به!!
الحزب الحاكم يعرف ما يريد،
فهل تعرف المعارضة ما تريد؟