يعود الإمام الصادق المهدي اليوم إلى أرض الوطن بعد غيبة طويلة. ومن يتابع أخباره ونشاطاته يشعر أنه لم يغادر السودان، فهو أكثر نشاطاً وفاعلية من شخصيات سياسية تعيش داخل حدود الوطن.
وهو يملك القدرة على تحويل المصاعب والمعوقات إلى محفزات، تجعله أكثر حيوية، وثباتاً، وأسرع خطا في التوجه إلى أهدافه، ولا أدل على ذلك من أنه يحول المعتقل إلى قاعة درس وبحث، فيشرع في التأليف، والتفكير المتعمق في حال البلد، فيكون المنتج كتاباً ماتعاً في موضوع لم يخطر على بال أحد.
وعندما رفضت مصر دخوله إلى أراضيها توجه إلى لندن، وجعلها منطلقاً لخطة واسعة لتوحيد قوى المعارضة، ومعرفة أحوال السودانيين في الشتات الأوروبي، فاستطاع أن يبني علاقات قوية مع المنظمات الدولية، وقادة الدول، والمكونات المختلفة لما يسمى بالمجتمع الدولي، فقدم شرحاً وافياً عن أوضاع السودان، واستطاع برصيده الفكري والسياسي أن يناقش ويقنع.
وكان تركيزه في الحل السلمي مفيداً مع الحركات المسلحة، واستطاع أن يخلق معها مشتركاً وطنياً يمكن البناء عليه في رؤية المستقبل وتحديد مساراته، فكان أن حرك الآلية الإفريقية رفيعة المستوى، التي بدت واقعة تحت ضغط النظام، لكنها في الوقت نفسه عرفت أن إصرار مكونات “نداء السوان” على وحدتها، والتفافها حول رئيسها أقوى مما تخيلته، وتخيل النظام، وذلك في موقعة أديس أبابا.
وهذا التماسك الذي بدت عليه نداء السودان نتاج عمل مضنٍ قام به الصادق المهدي، الذي استقطب أيضاً كثيراً من سودانيي المهاجر في أوروبا، واستطاع أن يكون قريباً منهم، ويستمع إليهم، ويعرف ما يعانونه، وما يملكونه من قدرات لمساعدة وطنهم.
إن السودان اليوم في مفترق طرق، والتحدي الحقيقي أن يكون وطناً يسع الجميع.
ومما يؤسف له أن يتلاعب النظام بمستقبل هذا الوطن بإصراره على التشبث بمنهجه الإقصائي الذي بدت نتائجه واضحة لكل ذي عقل يميز، إذ أصبحت حياة المواطن السوداني سلسلة من المعاناة التي لا نهاية لها، ولا أظن أن أهل النظام لا يشعرون بهذه المعاناة، لأنهم يصطلون بها، ويتقافزون يمنة ويسرة بحثاً عن حلول لها، على الأقل ليجدوا مبرراً لبقائهم.
وستظل الحلول جميعها قاصرة ما دام أن الأمر بيد مجموعة واحدة تزعم أنها مختارة، وأنها منقذة، وأنها قادرة على قمع كل صوت يعلو، حتى أصبح التهديد جهاراً نهاراً للشعب الأعزل.
وهذا التهديد الذي يأتي به عنصر أمن مثلاً هو صدى لسلوكيات مفاتيح النظام بدءاً من “لحس الكوع”، مروراً بـ “من يستطيع أن يقلعنا فليفعل”، وانتهاءً بتصريح مساعد الرئيس – الذي كان على رأس الوفد الحكومي في أديس أبابا- وقد استهزأ فيه بدعوات الخروج إلى الشارع، وهو يعني “الراجل يطلع لنا”، إذاً لا فارق بين عنصر الأمن ومن هم على رأس النظام، فالخلاصة أن هناك تحدياً سافراً لمن يعترض. كل يتحدى بالأسلوب الذي يناسب تفكيره، وفي كل الأحوال هناك زهو واستهزاء، واستخفاف بالآخرين، بما فيهم الشعب الذي يدركون مدى سخطه النابع من معاناته، وأنينه تحت ضغوط الحياة الرهيبة، التي لا يمكن احتمالها.
وإذا أراد النظام مخرجاً للوطن عليه أن يخفف من غلوائه، وأن ينظر إلى المنزلق الخطير الذي أوصلنا إليه، وأن يعلم جيداً أن الحل الأوحد هو الاعتراف بالفشل، والتيقن بأن النتيجة منطقية وليست مفاجئة، بناءً على تجربة الشعوب عبر الدهور، إذ لا توجد صفحة واحدة في التاريخ تقول إن الإقصاء أيا كان شكله يمكن أن يؤدي إلى ازدهار، فالمآسي كلها ترتبط بالرؤية الأحادية، وإعلاء الأنا على حسب “نحن”.
وعلى النظام استثمار عودة الصادق المهدي، والنظر إليها على أنها فرصة لتشكيل رؤية وطنية للمستقبل، وهي تتطلب مجاهدة النفس، وتقديم التنازلات، وبناء الثقة، وهذا الدواء المر الذي على النظام تناوله أهون من المصير الأمر الذي تنبئ عنه مصائر الأنظمة الطاغية في محيطنا العربي والإفريقي، التي تمسكت بمبدأ شمشون الجبار “عليّ وعلى أعدائي يا رب”.
كما أن على المعارضة إدراك أن هذا الوقت العسير لا مجال فيه للصغائر، وممارسة الاستقطاب، واللعب على مشاعر الشعب المغلوب على أمره بالمتاجرة بمعاناته، وعلى الجميع إدراك أن الشعب المعلم ما زال يحيا، وما زال قادراً، ونفض الغبار أهون ما يكون عندما يريد.