تضَمن خطاب السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام الأنصار ورئيس نداء السودان الأفكار التي ظل يرددها منذ أمد بعيد.
و أتفقُ شخصياً مع كثير مما طرحه: “هناك وطن يضيع وواجبنا أن نحميه”، و”صياغة عقد اجتماعي جديد يحقق الخلاص الوطني”، و”تشكيل حكومة قومية برئاسة وفاقية”، و”عقد مؤتمر دستوري”، ولا للاسستبداد ولا للهيمنة الثقافية ونعم للوحدة.. لا لتقرير المصير نعم للسودان العادل الجامع.. لا للتمكين الحزبي ونعم للوفاق القومي.. لا للتعبير التخريبي نعم للتعبير السلمي..الشعب يريد نظاماً جديداً”.
كل هذه أفكار وشعارات تخاطب الواقع، ولكن كيف يمكن تفعيلها؛ لتصبح ماثلة على الأرض، هل يُعقل أنّ نظاماً تشبث بالسلطة (30) عاماً، وما زال يأمل في المزيد، يمكن أن يرضى بتفكيك دولة الحزب الواحد، وهل منتفعون من الوضع القائم، سيرضون بوضع السلاح، والرضوخ لمتطلبات بناء دولة مؤسسية تشيع قيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ومن المصادفات أن تشتعل المظاهرات في ربوع الوطن، ويسقط شهداء في تزامن مع خطاب المهدي، وهذا يعني أن المواطنين لم يجدوا سبيلاً للتعبير إلا التظاهر، والخروج إلى شارع محفوف بالمخاطر، في ظل أجهزة أمنية شرسة لا تعطي قيمة لحياة الإنسان.
ولا يبدو أن هناك رشيداً بين القوم (يعقلن) الأمور، ويحاول أن يصل إلى حلول، ولا أدل على ذلك من عجرفة ممثل الحكومة في مباحثات أديس أبابا الذي استخف بدعوات الخروج إلى الشارع، ووصف أصحابها بأنهم يعيشون غيبوبة، وعدم اتزان!!
إذن على السيد الصادق المهدي وممثلي الأحزاب والقوى السياسية ابتكار وسائل ضغط أنجع، ورفع سقف المطالب وإدراك حجم تأثير العامل الخارجي في حسم الأمور مع نظام متلون يعرف من أين تُؤكل الكتف.
وأعتقد أن المهندس عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني كان ذكيّاً وأرسل رسالة واضحة إلى الصادق المهدي حين قال مخاطباً إياه: “أنت تأتي في لحظة فارقة نريد أن نعرفك فيها، ونعرف حزبك، ونريد منك مواقف واضحة بأن تعاطينا مع خيار الحل السياسي ليس نافياً لخيار المواجهة عبر العمل الجماهيري السلمي”.
وأرى أن السيد الصادق جانبه التوفيق حين راح يمارس وسطيته، ويدعو بجمع الشامي على المغربي، ويخوض في مواقف سياسية ساخنة تخص دولاً في المنطقة، لأنَّ ما يقوله يمكن تفسيره خطأً من أيّ جانب، وهو في حاجة إلى ألا يكون هناك موقف سلبي تجاه الحراك السياسي الذي يمثل حزب الأمة ونداء السودان جزءاً مهماً ورئيساً فيه، وكان عليه أن يركز في مخاطبة الشعب السوداني في الداخل والخارج، ويمنحه الأمل في الخلاص من هذا الوضع الذي أصبح فيه السودان “ملطشة” على حدِّ تعبيره.
كما أنَ قضيةً مثل التغير المناخي، والاحتباس الحراري ليست ملحة في هذه اللحظة الفارقة، وهي تبدو من ترف القول.
ولا أعرف ما إذا كان هناك من يستعين به السيد الصادق في صوغ رؤاه وأفكاره قبل مخاطبة حشد مثل الذي كان في استقباله، ففي رأيي المتواضع أن الخطاب المباشر من دون ورق أو قلم كان المقام أولى به، كما أن رفع مذكرة إلى رئاسة الجمهورية باسم القوى السياسية كان أوقع، وأكثر تأثيراً، حتى لو تطلب الأمر توجه الحشود صوب القصر الجمهوري، بعد تقدير الموقف، وما زالت الفرصة مواتية للقيام بهذه الخطوة.
ومن عيوب السياسة السودانية التي واكبت الحدث إعلان عدد من أعضاء حزب الأمة القومي تجميد عضويتهم على الملأ، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا دليل على عدم الانضباط الحزبي، والتفلُّت الذي يمارسه كثير من المنتمين إلى أحزابنا، وهؤلاء لا يدركون أنَّ مثل هذه الممارسات غير المسؤولة تصب في مصلحة النظام، بل إنها من أسباب استمراره طوال هذه المدة، وأفقدت مثل هذه الممارسات كثيراً من المواطنين الثقة بالأحزاب، وبقدرتها على قيادة التغيير.
ومع كل ما سبق، أعتقد أن النظام عليه أن يدرك أنَّ الوقت قد فات لإجراء أيّ ترميم، أو معالجة، ولا خيار أمامه غير التحوُّل الديمقراطي، الذي يصبح في ظلِّه الشعب حراً في اختيار من يمثله، ويعبر عنه، على أن يتحمل كل من استظل بالإنقاذ حكم الشعب له أو عليه، وأنَّ أيَّ حركة في أي اتجاه بعيداً من هذا الخيار تعني التمسك بمبدأ شمشمون “عليّ وعلى أعدائي يا رب”، كما ظللت شخصياً أردد وأحذر، وهذا أضعف الإيمان.