حسناً فعلت رئاسة الجمهورية بإصدارها قراراً بإلغاء مهرجانات السياحة والتسوق، فلو كان الأمر بيدي كنت سأصدر نفس القرار وأتبعه بقرارات أخرى، لا تقل أهمية، تلغي عددا من المهرجانات والاحتفالات والمناسبات الشبيهة بمهرجانات السياحة والتسوق لأغلق بذلك أبوابا كثيرة من أبواب الصرف البذخي وتبديد وهدر المال العام وربما الفساد!
من أمثلة هذه المناسبات:الدورة المدرسية، والمؤتمرات وورش العمل بكل أنواعها ومسمياتها في العاصمة والأقاليم، والسفريات والمأموريات والمؤتمرات خارج البلد، والحج والعمرة على حساب الدولة، والانتدابات المتكررة والسفر من الأقاليم والولايات للعاصمة من قبل كبار المسئولين وأعوانهم وأحيانا الإقامة فيها لفترات طويلة وربما تصريف أعبائهم في الولايات “بالمراسلة”! ومثل هذه الممارسات كثيرة ومشاهدة!
لن أحسب ما نفقده من تنظيم وعقد مثل هذه المناسبات والاحتفالات والانتدابات والسفريات بكم صرفنا عليها من مال الدولة فقط، ولكن أيضا بكم أهدرنا من الوقت والجهد، وكم شخصا استدعينا من الأقاليم ومن أطراف السودان البعيدة، ليتركوا أعمالهم وليحضروا تلك المؤتمرات والمناسبات التي أزعم ألا طائل منها، وكم ضيفا ومشاركا دعونا من الخارج وتكفلنا بمصاريف سفره وإقامته وربما نثرياته طيلة أيام المناسبة؟
هنالك وجوه ألفناها لا شغل لها غير حضور تلك المناسبات لا يفوتهم منها شيء! ولاة ووزراء ومدراء وتنفيذيون وسياسيون وأصحاب مهن كثيرة أصبح هذا شغلهم الشاغل. قنوات فضائية وإذاعات وصحف وإعلاميون كثر يتم الصرف عليهم لتوجيه جهودهم لتغطية تلك المناسبات، ولاستضافة بعض المؤتمرين على هامشها للكلام ” الخارم بارم” الذي لا يودي ولا يجيب! لو أضفنا هذا للأموال المنفقة وقارنا ذلك بالنتائج على أرض الواقع سندرك حجم الخسارة والمال المهدر الذي كان يمكن أن ينفق على أمور لها أهمية وأولوية.
بأي منطق ننظم مهرجان الدورة المدرسية ننتقل به من ولاية لأخرى، وننفق عليه ملايين الجنيهات ونحن أحوج ما نكون لصرف هذه الملايين على أولويات كثيرة منها: إنشاء وتأثيث المدارس الجديدة في المناطق التي تحتاجها، وصيانة بعض المدراس التي أصبحت تتهاوى فوق رؤوس التلاميذ في فصل الخريف، وتشييد المرافق التي تحتاجها تلك المدارس وإجلاس التلاميذ وتحمل المصاريف المدرسية عن بعضهم، وتوفير الزي المدرسي والوجبات للفقراء منهم في أطراف بلادنا الواسعة، ودفع مرتبات المعلمين وحوافزهم التي تتأخر أحيانا لبضعة أشهر وغير هذا من المتطلبات التعليمية والتربوية الضرورية ؟!
لو كان الأمر بيدي لن أسمح بمثل هذه الفعاليات إلا في حالات الضرورة القصوي وبأقل تكلفة ممكنة. فبأي منطق ننظم المؤتمرات وورش العمل التي لايكاد يمر يوم واحد دون أن نشاهدها تنعقد في العاصمة وخارجها وتمتد لأيام، ننفق في الإعداد لها وتنظيمها الأموال، ويتنادى لها المؤتمرون من داخل وخارج البلد، ثم تودع الدراسات والأوراق والتوصيات في الأضابير، ويمضي عليها الوقت وتتقادم ولا نرى لها أثرا على الواقع الذي يفترض أن تكون قد تمت دراسته وبحثه وتداول حوله المؤتمرون وخرجوا بتوصيات قابلة للتنفيذ.
يا ليت لو أن هذه الفعاليات “بلاش” تتولى تنظيمها وتتحمل تكاليفها جهات خارجية أو تصرف عليها شركات القطاع الخاص ورجال الأعمال والتجار وغيرهم من المقتدرين، لكن الواقع أن الدولة ظلت هي البقرة الحلوب، تستنزفها هذه المناسبات والاحتفالات والسفريات رغم عجزها وشح مواردها، وما زال هذا مستمرا!
وحتى بإفتراض أن جزءً من تمويل هذه المناسبات والاحتفالات وورش العمل والمؤتمرات يقوم به القطاع الخاص وبعض الشركات ورجال الأعمال، أليس الأولى أن يتم توجيه ما يساهمون به لما هو أهم من احتياجات وخدمات تهم الناس؟!
يا ليتنا كنا نستطيع أن نبقي على كل هذه الفعاليات والمهرجانات، ويا ليت لو كانت مواردنا غير محدودة تكفي للضروريات وأيضا لهذه “الكماليات”! ولكن حالنا الاقتصادي البائس وشح مواردنا وحاجتنا لتوجيه ما لدينا للانتاج وللخدمات الرئيسة التي تهم المواطن، هي التي تحتم ضرورة اتخاذ قرار وقفها وإلغائها وهو الذي سأفعل.
هذا لو كان الأمر بيدي، أما وأنه ليس كذلك ، فالشكوى إلى الله!